تاريخ البصرة

البصرةُ في (سَفر نامه): تنافرُ الأمكِنة

البصرةُ في (سَفر نامه): تنافرُ الأمكِنة

حينَ وطأَتْ قدَما الرّحّالةِ القادمِ من مدينةِ مَرُو الإيرانية أرضَ البصرةِ لأوّل مرةٍ في حياتهِ، لم يكنْ مشغولَ البالِ بغيرِ المَشاهدِ المُتناقضَةِ التي اجتمعتْ على أرضِ هذهِ المَدينة؛ فبمُحاذاة شطِّ العَرَب والقَنواتِ المتفرِّعةِ منه تمتدُّ غاباتُ النَّخيلِ الغارِقةُ بالظِلال، بينما تَجثو الصحراءُ في الجزءِ الجنوبيِّ الغربي من المدينةِ، أما الخرابُ فماثلٌ في أجزاءٍ كثيرةٍ منها.. ويعلو صَخبُ التناقضِ حينَ يصلُ (ناصِر خُسْرو) إلى مدينةِ الأُبُلّة، ويُدهشُه عمرانُها، وجَمالُ قصورِها، وأسواقُها، ومساجدُها، وأربطتُها، فيقفُ عاجزاً عن وصفِ جَمالِها الصّاخِب.. كشأنِ أغلبِ الرَّحالين، الذينَ يقيّد حركتَهم ضيقُ الوقتِ فلا تلتقطُ أعينُهم بحرصٍ تفاصيلَ أمكنةٍ ما، يكتفي خُسرو بالوصفِ في بعضِ المواضِعِ من رحلته، من غيرِ أنْ يكشفَ عن أسبابِ الحالِ أو الهَيأة التي يكونُ عليها المكانُ، فقد كانَ طريقُ العَودةِ إلى بلدتِهِ (خُراسان) عن طريقِ البَصرة بعدَ تأديةِ فريضةِ الحجِّ. ولم يمنعْ ذلك مِن أنْ نقرأَ في نَصِ رحلتِهِ التي أسماها (سَفر نامه/ كتاب السفر) صورَ الاكتشافِ والتوثيقِ، ومكابدةَ الصِّعابِ، ولذةَ المعرفةِ مُجتمعةً على صَفَحاتِها. من ذلك ذكرُهُ ثلاثةَ عشرَ مشهداً في أماكن مختلفة، باسم أميرِ المُؤمنينَ (عليه السلام)، كانتْ قد ارتبطتْ بأحداثٍ ومواقفَ للإمامِ في أثناءِ إقامتِهِ في البَصرة اثنينِ وسبعينَ يوماً بعدَ معركةِ الجَمل سنة 35 هـ، غير أنّ نسقَ الرّحلةِ هنا يبخسُ حقَ القارئ في عدمِ تقديمِ وصفٍ تفصيليٍّ أو إجماليٍّ سريعٍ لهذهِ المشاهدِ المُهمةِ وتحديدِ أمكنتِها، وقد كانَ ذلك مُمكناً، وفائدتُه كبيرةً جداً فيما لو تحقَّق. وقد يكونُ اختصارُ نصِّ الرحلةِ من قِبل النُّساخ وراءَ ذلك، إذ يرى بَعضُ الباحثينَ ومنهُم مُترجمُ الرَّحلة، أنَّ ما بينَ أيدينا نسخةٌ مختَصرةٌ لأصلٍ أطولَ من ذلكَ وأكبر، فُقِدَ ولم يَعثرْ عليه أحَد. ولم تكنِ الظواهرُ الطبيعيةُ في البَصرة بعيدةً عن عنايةِ الرَّحالة فقد أفردَ عُنواناً ثانوياً يَصفُ فيه ظاهرتَي المدّ والجَزر بلغةٍ علميةٍ غايتُها تحقيقُ البُعد التَعليميِّ الذي يَعتني به نَمطٌ من قرَّاء الرِّحلات، ويُلبّي حاجتَهم. قد يتبادرُ إلى الذّهن سؤالٌ مفادُه: هل يَصُحُّ أنْ نفْصلَ ما بين الرّحلةِ بوصفِها فِعلاً استكشافياً يتضمّنُ المتعةَ والمعرفةَ، وكتابةِ الرّحلةِ بوصفِها نَصّاً أدبياً ذا أبعادٍ ثقافيةٍ مُختلفةٍ لدى ناصر خسرو؟. ويمكنُ للإجابةِ عن هذا التَّساؤل الاستعانةُ بما نقلهُ د. يحيى الخشّاب مُترجم نَص الرّحلة عن ناصر خسرو من مَضمونِ كلامهِ في ديوانِه عن بواعثِ قيامِهِ بهذه الرّحلة؛ إذ كانَ المحرّضُ الفاعلُ هو تأمّلُ آياتٍ من سُورتي محمد والفتح، منها ما اختصَّتْ بالحَثّ على التدبّر ومنها ما تضمَّنتْ ذكْرَ بيعةِ المؤمنين الرّسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) تحتَ الشّجرة، فهيّأ هذا التأملُ المجالَ لنفوذِ سِحرِ المكانِ إلى نفسِهِ التوّاقةِ للسكينةِ وحبِّ المعرفةِ (ينظر: سفر نامه: 21)، ويعزمُ على القيامِ برحلتِهِ، ويعدُّ العُدة لها، فيكونُ الحجُ مبتدأ الرّحلة في سنة 437هـ، بعد أنْ زارَ بيتَ المقدس. وعَبْر المُعاينةِ المُباشرةِ يبدأ الرَّحالةُ وصفَ الأمكنةِ؛ فيصفُ الشامَ وفلسطينَ ومصرَ وبلادَ العَربِ وصُولاً إلى البَصرةِ في طريقِ العَودةِ إلى بلادِه. في ضوءِ ذلك نجدُ أنّ الوَعيَ بقيمةِ المكانِ وأهميةِ تأثيرهِ في الإنسانِ كانَ الباعثَ الكبيرَ للقيامِ بالرحلة، ولا يُستبعدُ أنْ يكونَ وراءَ فعلِ الكتابةِ وتدوينِ الرَحلة أيضاً، لذا يمكنُ أنْ يكونَ الفعلانِ قد تَحققا بشكلٍ مُتوازٍ، أو أنّ الخطوطَ الأولى للنصّ قد وُضِعَتْ في أثناءِ الرّحلة على أقلّ تقدير؛ فما إنْ خطا خسرو خطواتِهِ الأولى داخلَ الأبلّة حتى احتَضنتْهُ الخضرةُ الآسرةُ على كتفَي نهرِها الذي حملتْ اسمَه، وظلَّ ذهنُ الرّحّالة طوالَ مشيهِ باتجاهِ سوقِ المدينةِ مُنشغلاً بتسجيلِ المَشاهدِ عَبْر الكلماتِ بشكلٍ فوريٍ، ليهيئَ أفضلَ ما يستطيعُ من جملٍ تستوعبُ هذا الجَمالَ ساعةَ تدوينِ الرّحلة. على الرّغم مِن أنّ دخولَه البَصرةَ كانَ في نهايةِ رحلتهِ التي استغرقتْ سبعَ سنواتٍ، لم تفترْ همةُ خسرو في التقاطِ المَشاهدِ وتصويرِ الأمكنَةِ ووصفِها، وصارتْ مدةُ إقامتهِ القصيرةِ في البصرةِ التي بلغتْ (57 يوماً) حافلةً بالتنوّع، فجاءَ وصفُ المَدينةِ مُباشراً تارةً، أو مِن خلالِ سردِ حَدثٍ تاريخيٍّ قديمٍ يرتبطُ بالمكانِ تارةً أخرى، وبينَ هاتينِ الطريقَتينِ يَعمدُ أحيَاناً إلى اعتمادِ نَقلِ حدثٍ هو بطلُهُ، مُعرّفاً بالشخوصِ الذينَ يلتقيهم في المدينةِ بطريقةٍ تَمنحُ النصَّ حيويةً، وتعمّقُ من دلالتِهِ، من خلالِ الحركةِ والتشارُك في صُنعِ الحَدث. فمنَ الواضحِ أنَّ ذلك يخدمُ التعريفَ بالمكانِ وطبيعةِ قاطنِيهِ وقيمِهم الاجتماعيةِ وثقافتِهم؛ فـ المكانُ بشاغِلِهِ كما يُقال. يَرى قارئُ وصفِ ناصر خسرو مدينةَ البصرةِ أنّ الشعورَ بالدهشةِ لا يفارقُ الرّحالةَ ولو على نحوٍ خفي؛ من ذلك استعانتُهُ بخبرٍ سماعيٍّ لا يخلو من الغَرابة والنُّدرةِ عن نهرِ الأبلّة، يذكرُه _ وهو يركبُ زورقاً مُغادراً المدينةَ _ على هذا النّحو: «ويُقالُ: أنّه كانَ مِن المُتعذر في وقتِ ما أنْ تمُّرَّ سفينةٌ من فمِ نَهر الأبلّة، لعِظمِ عُمقِ مائهِ، فأمرتْ امرأةٌ من أثرياءِ البصرةِ بتجهيزِ أربعمائةِ مَركبٍ، وملأتْها كلَّها بنوى التمرِ، وأغرقَتْها هناك بعد إحكامِ سدادِها، فارتفعَ القاعُ، وتيسَّر عبورُ السُّفن». (سفر نامه: 168). فالوصفُ لا ينفصلُ عن السَّرد، وهنا يؤدي الخَبرُ وظيفةَ الإمتاعِ لقارئهِ، فَضلاً عن تقديمِ المَعرفة. ويحسنُ خسرو عَبر سردِه اتقانَ هذه الوظيفةِ، فهو يشدُّك ويشعرُك بالمتعةِ عَبر تجسيدِ مَشهدِ النّهر بطريقةٍ مُتحركةٍ، وكأنَّ القارئَ يَصحبُ عينَ الرّحالةِ في الزورقِ المُتمايلِ على النّهرِ الجَميلِ، مُستمتِعاً بجمالِ الحَدائقِ والمَناظرِ المُبهرةِ المُنبسطةِ على شاطئَي النّهر. قدْ لا يملكُ القارئُ المُعاصرُ مَنْعَ نفسِهِ، وهو يُنهي قراءةَ وصفِ البَصرة في الرّحلة، مِن أنْ يتأملَ تحولاتِ المَكانِ، فتجاورُ الخرابِ والعمرانِ، والصّحراء والأمكنَة الخَضراء في المدينة منذُ ما قبلَ ألفِ عامٍ وحتى الآنِ، أمرٌ يثيرُ الدهشةَ والاستغرابَ، و لعلّ هناكَ مَنْ يشاركُني الرأيَ، وأنا أنْهي قراءَتي بعينينِ دامعَتينِ، في تَحميلِ الإنسان مسؤوليةَ إفسادِ الأمكنَةِ وتَشويهِ الجَمَال.

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7800816579
00964-7800816579
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathofbasrah@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...