تاريخ النجف

النجف الأشرف بعد ظهور القبر الشريف

النجف الأشرف بعد ظهور القبر الشريف

بظهور المرقد المطهّر سنة ١٧٥هـ-٧٩١م على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد أصبح هذا المشهد نواة لسكنى عدد من الشيعة والعلويين وقد اطمأنّوا من خليفة عصرهم بعد ظهور القبر المطهّر على يده، فبنوا بيوتا حول القبر الشريف وأقاموا فيها. وبقيت المجاورة للمرقد المطهّر بين الوجود والعدم حتى قيام بإنشاء عمارة على المرقد المطهّر حوالي سنة ٢٨٣ هـ في عهد المعتضد العباسي، فاستمرّت المجاورة بعد هذه السنة دون انقطاع حتى يومنا هذا. فقد ورد أنّ المتوكّل بن المعتصم بن هارون الرشيد أمر بهدم قبر أمير المؤمنين وقبر الحسين عليهما السّلام سنة ٢٣٦ هـ وهرب المجاورون من سطوته(1). كما أنّ الخلفاء العباسيّين الذين أتوا بعد المتوكّل ورثوا منه العداء والنصب لعترة الرسول صلّى اللّه عليه وآله سوى ولده المنتصر الذي أمر الناس سنة ٢٤٨ هـ بزيارة قبر أمير المؤمنين والحسين عليهما السّلام لكنّه لم يدم أكثر من ستّة أشهر(2). أمّا المستعين العباسي المتوفى سنة ٢٥٢ هـ فقد كان مبغضا لأهل البيت عليهم السّلام حتى أنّه أودع الإمام الحسن العسكري عليه السّلام السجن مدّة من الزمن، وكذلك فعله المعتز بن المتوكّل المتوفى سنة ٢٥٥ هـ، ثمّ حكم المهتدي المتوفى سنة ٢٥٦ هـ وهوكآبائه على أشدّ البغض والنصب لآل النبي صلّى اللّه عليه وآله، وبعده جاء المعتمد وهوأيضا على سيرة المتقدّمين عليه وقد امتدّت خلافته حتى سنة ٢٧٩ هـ. وممّا يدعم بقاء المرقد المطهّر دون مجاورة في خلافة المعتمد وأنّ زيارة المرقد كانت محظورة في عهده، ما رواه السيّد ابن طاووس، عن محمد بن علي بن رحيم، قال: مضيت أنا ووالدي علي بن رحيم، وعمّي حسين بن رحيم، وأنا صبيّ صغير سنة نيّف وستّين ومئتين بالليل، ومعنا جماعة متخفّين إلى الغري، لزيارة قبر مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا جئنا إلى القبر وكان يومئذ قبر حوله حجارة مسندة ولا بناء عنده، وليس في طريقه غير قائم الغري(3).... وتسلّم المعتضد العباسي زمام الأمر بعد وفاة المعتمد سنة ٢٧٩ هـ، فقرّب آل أبي طالب ولم يتعرّض لزائري المرقد الشريف لرؤيا رآها في المنام. أخرج القاضي التنوخي المتوفى سنة ٣٨٤ هـ في كتابه»الفرج بعد الشدّة»، قال: رأى المعتضد وهوفي حبس أبيه كأنّ شيخا جالسا على دجلة يمدّ يده إلى ماء دجلة فيصير في يده وتجفّ دجلة، ثم يردّه من يده فتعود دجلة كما كانت، فسألت عنه، فقيل لي هذا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقمت إليه فسلّمت عليه، فقال لي يا أحمد: إنّ هذا الأمر صائر إليك فلا تتعرّض لولدي وصنهم ولا تؤذهم. فقلت: السمع والطاعة لك يا أمير المؤمنين(4). وفي خلافة المعتضد حوالي سنة ٢٨٣ هـ أحدث ملك طبرستان محمد بن زيد، المعروف بالداعي الصغير، عمارة على المرقد المطهّر تتكون من قبّة وحائط وحصن فيه سبعون طاقا. وهذه هي أول عمارة بعد البناء الذي أمر به هارون الرشيد، ولم يكن قبلها القبر إلاّ أرضا خالية، فابتدأت المجاورة بعد هذا التاريخ من جديد دون انقطاع، ولم تمض الأيام حتى أصبحت النجف مأوى للشيعة وعلمائهم. وممّا يؤيّد ذلك ما قاله أبوالغنائم النرسي، وهوأحد أعلام الكوفة قرب ذلك العهد، قال: ولم يكن إذ ذاك القبر وما كان إلاّ الأرض حتى جاء محمد بن زيد الداعي وأظهر القبر(5). وأصبحت النجف ذات شأن بعد ثلاث عشرة سنة من عودة الإقامة والمجاورة للمرقد المطهّر، كما يظهر ذلك من رحلة الشيخ الحسين بن روح النائب الثالث للإمام محمد بن الحسن عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف إلى النجف وإقامته فيها سنة ٢٩٦ هـ، ويظهر أيضا أنّها لم تكن خالية من رجال علم مقيمين بها حين قدومه رضي اللّه عنه، وسيأتي توضيح ذلك في موضوع»تاريخ الحركة العلمية في النجف». ولمّا جاء السلطان عضد الدولة البويهي لزيارة المرقد المطهّر سنة ٣٧١ هـ وجد المدينة عامرة بالسكان، ويدلّ على ذلك كثرة ما بذله عضد الدولة البويهي على المقيمين في زيارته. وبعد التقدّم العمراني الذي حصل للنجف في العهد البويهي أخذت الأسر العلمية الشيعية في الكوفة تنتقل إليها وتقطنها ويقصدها طلاب العلوم والمعرفة. ففي سنة ٣٠٨ هـ إنتقل إلى النجف الأشرف وأقام فيه النقيب السيّد شريف الدين محمد المعروف بابن السدرة. ولم تزل مدينة النجف بين الإهمال الذي يؤول إلى خراب بنائها، والاعتناء بعمرانها ونموّه وتطوّره بإنشاء الدور والعمارات المتتالية للمرقد المطهر وإجراء الأنهر من الفرات حتى أصبحت مساحة مدينة النجف سنة ٧٤٠ هـ ألفين وخمسمئة خطوة، ما حدّدها حمد اللّه المستوفي القزويني المتوفى سنة ٧٥٠ هـ(6). وحكى الرحّالة البرتغالي تكسيرا أنّ مدينة النجف اتّسعت في عهد الشاه طهماسب المتوفى سنة ٩٨٤ هـ، فكانت تضم ستّة آلاف إلى سبعة آلاف دار مبنيّة بإتقان(7). ويشير المؤرّخون إلى طلب كان قد رفعه والي بغداد سنان باشا سنة ٩٩٩ هـ-١٥٩٠م إلى السلطان مراد الثالث، وممّا ذكره الوالي سنان باشا في طلبه أنّه كان في النجف ثلاثة الآف دار عامرة لم يبق منها إلاّ عشرها بسبب ما يقاسيه أهل النجف من قلّة الماء، ما جعلهم يضطرّون إلى الجلاء عن مدينتهم(8). ثمّ انحسرت بيوتها فأصبحت عام ١٠١٣ هـ لا تزيد على الستمئة، كما ذكره الرحّالة البرتغالي تكسيرا حين وروده النجف في السنة المذكورة(9). وجاء في رحلة السيّد محمد بن أحمد الحسيني المنشئ البغدادي ودخوله النجف عام ١٢٣٧ هـ: أنّ بيوت النجف نحوألفي بيت من العرب والعجم(10). كما قدّر المؤرّخ زين العابدين الشيرواني عدد دور النجف في هذه السنة ١٢٣٧ هـ، بين ألفين إلى ثلاثة آلاف دار في غاية الجودة، وهي كلّها محيطة بالحرم المطهّر(11). وورد في رسالة بعث بها إلى الأستانة محمد نامق باشا الوالي العثماني في بغداد ومشير جيش الحجاز والعراق بتاريخ ٩/ذي القعدة/١٢٦٨ هـ: أنّ النجف يسكنها عدد كبير من التبعيّة الأجنبية، وهي مدينة معظّمة تحتوي على عشرين ألف بيت. ومع ما يبدوفي هذه الرسالة من مبالغة في عدد الدور التي تضمّها مدينة النجف الأشرف، إلاّ أنّها تظهر مدى التطوّر العمراني السريع فيها. وأصبحت النجف مدينة مزدهرة، يتراوح عدد نفوسها ما بين العشرين والثلاثين ألف نسمة، على حد قول جون بيترز خبير الآثار الأمريكي، الذي زار النجف سنة ١٣٠٨ هـ-١٨٩٠ م(12). ولم تزل مدينة النجف الأشرف في نمومستمر حتى أصبح عدد نفوسها سنة ١٣٣٩ هـ-١٩٢٠ م بما يقدّر بستّين ألف نسمة، وهي السنة التي زحف الجيش البريطاني المحتل على النجف الأشرف وأصدر الأمر إلى الأهلين بالدخول إلى المدينة وأغلقت أبواب السور على السكان-كما سيأتي في أحداث السنة المذكورة(13). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) النجوم الزاهرة: ٢/٢٨٣-٢٨٤. تاريخ طبرستان (فارسي) : ١/٩٥. (2) الكامل في التاريخ: ٦/١٤٨-١٤٩. (3) فرحة الغري: ١٦٤. (4) الفرج بعد الشدّة: ١/١٥٤. (5) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: ٩/١٨٩. (6) نزهة القلوب (فارسي): ٣٢. (7) موسوعة العتبات المقدّسة (قسم النجف) : ١/٢٠٢. (8) وادي الفرات ومشروع سدّة الهندية: ٢/٢٦١-٢٦٣. (9) موسوعة العتبات المقدّسة (قسم النجف) : ١/٢٠٢. (10) رحلة المنشي البغدادي: ٩١. (11) رياض السياحة (فارسي): ٧٨٣. (12) موسوعة العتبات المقدّسة (قسم النجف) : ١/٢٤٠-٢٤٣. (13) الثورة العراقية الكبرى: ٣١٩.

صور من الموضوع ...

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...