تاريخ النجف

الحركة العلمية قبل مجيء الشيخ الطوسي

الحركة العلمية قبل مجيء الشيخ الطوسي

أنّ المجاورة للمرقد الشريف عادت من جديد واستقرّت مع تسلّم المعتضد العباسي زمام الخلافة سنة ٢٧٩ هـ فانتقل بعض محدّثي الكوفة وطالبي علوم أهل البيت (عليهم السّلام) إلى المدينة الناشئة، واقترن بذلك نشوء الحركة العلمية في النجف، لتصبح هذه الحركة امتدادا لمدرسة الكوفة التي ظهرت في أواسط القرن الثاني في حياة الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) واستمرت حتى الربع الأول من القرن الرابع الهجري، كما اتّسمت بسماتها وأسلوبها بطابع فكري قديم خاص بها. ولم تمض الأيام حتى أصبحت النجف مأوى لعلماء الشيعة. فقد ورد أنّ في سنة ٢٩٦ هـ زار مرقد الإمام علي ((عليه السّلام)) في النجف الأشرف الحسين ابن أحمد بن عبد اللّه المعروف عند الإسماعيلية بالمستور أوالمكتوم، واتّصل في النجف بأبي القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر(1) أحد الشيعة الإمامية المعروفين الذين كانوا على اتصال دائم بالإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)، واتّصل في النجف أيضا بعلي بن الفضل(2) . ويفهم من قوله: (واتّصل في النجف بأبي القاسم وعلي بن الفضل) أنّهما لم يكونا زائرين للنجف بل كانا مقيمين فيه، والحسين بن روح هوالنوبختي المتوفى سنة ٣٢٦هـ وهوالنائب الثالث للإمام محمد بن الحسن العسكري عجّل اللّه تعالى فرجه الشّريف، وعلي بن الفضل كأنّه ابن العباس البغدادي المعروف بأبي الحسن الحنوطي أحد مشايخ الصدوق المتوفى سنة ٣٨١هـ. على أنّ إقامة أحد النوّاب الأربعة في النجف ولولفترة يكشف عن أنّها أصبحت مركزا للمرجعية الشيعية في ذلك العصر، فهم رضي اللّه عنهم سفراء الإمام الغائب عجل اللّه تعالى فرجه الشّريف، ومفزع الناس للإجابة عن استفتاءاتهم وقبض حقوقهم الشرعية لإيصالها إلى مستحقّيها ودفع الشبه ونفي البدع عن المذهب. ويلازم ذلك وجود أصحاب للنوبختي من أهل العلم في رحلته إلى النجف، كما يظهر من هذه الرحلة أنّ النجف لم تكن خالية من رجال علم مقيمين بها حين قدومه رحمه اللّه، إذ لم يكن لمرجع ديني أن يهاجر لأرض جرداء من العلم. ويدعم إقامة الحسين بن روح في النجف، مع ما عرف عنه إقامته في بغداد، ما ورد من أحداث متوالية مرّت بها مدينة بغداد سنة ٢٩٦ هـ، كما أوردها ابن الأثير، منها: اجتماع جماعة من القوّاد والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبد اللّه بن المعتز الخلافة، ومحاولة الفتك بالمقتدر في دار الخلافة، وما تبع ذلك من وقوع النهب في البلد والهرج والمرج، ثمّ إعادة المقتدر إلى الخلافة ـ بما يشبه الأحداث التي مرّت بها بغداد في عهد الأمين وأخيه المأمون ـ والمقتدر هوثاني خليفة يعاد إلى الخلافة بعد الأمين. وسقوط ثلج عظيم ببغداد في هذه السنة حتى اجتمع على الأسطح منه نحومن أربعة أصابع وهذا غريب في بغداد جدّا، ولم تخرج السنة حتى خرج الناس يستسقون لأجل تأخّر المطر عن وقته(3). وفي سنة ٣٠٨ هـ أقام في النجف الأشرف النقيب السيّد شريف الدين محمد المعروف بابن السدرة، وكان قد نازع أبا الحسين زيدا الأسود بن الحسين بن كتيلة فضيّق عليه ابن كتيلة وغلبه في النقابة وصار هوالنقيب. فسافر إلى المشهد الغروي في النجف الأشرف وأقام فيه حتى توفي، وخلف من الذكور سبعة ومن الإناث خمسة، وكثروا وانتشروا واشتهروا ببني السدرة(4). وغير خفي أنّ النقابة في ذلك الوقت لم تكن إلاّ بيد علماء أجلاّء، ولم يكن لينتقل إلى النجف إلاّ بعد أن وجد فيها بيئة صالحة للتوطّن وبث العلم. ومن شواهد وجود الحركة العلمية في أوائل القرن الرابع الهجري ما ذكره النجاشي في ترجمة أبي الحسن إسحاق بن الحسن بن بكران العقراني (العقرائي) التمّار، قال: رأيته بالكوفة وهومجاور، وكان يروي كتاب الكليني عنه. له كتاب (الرد على الغلاة)، وكتاب(نفي السهوعن النبي صلّى اللّه عليه وآله)، وكتاب(عدد الأئمة)(5). ومن المعلوم أنّ وفاة الشيخ الكليني كانت سنة ٣٢٩ هـ فتكون ولادة العقراني حدود سنة ٣٠٠ هـ. و(المجاور)يطلق على المقيم في الأماكن المشرّفة، فيقال: مجاور مكّة المعظمة، ومجاور المدينة المنوّرة. والمراد هنا مجاور الغري بظهر الكوفة، ومراده أنّه لم يكن زائرا للنجف بل كان مقيما بها(6). وفي سنة ٣٧١ هـ كانت زيارة السلطان عضد الدولة البويهي للنجف. قال السيّد عبد الكريم بن طاووس: نقلت من خطّ السيّد علي بن عزام الحسيني رحمه اللّه ما صورته: حدّثنا يحيى بن عليان الخازن بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، أنّه وجد بخط الشيخ أبي عبد اللّه بن محمد بن السري المعروف بابن البرسي رحمه اللّه، بمشهد الغري سلام اللّه على صاحبه، على ظهر كتاب بخطّه، قال: كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغروي والحائري في شهر جمادى الأولى في سنة أحدى وسبعين وثلاثمئة... وتوجّه الى الكوفة لخمس بقين من جمادى المؤرّخ، ودخلها. وتوجّه إلى المشهد الغروي يوم الإثنين، ثاني يوم وروده وزار الحرم الشريف، وطرح في الصندوق دراهم، فأصاب بكلّ واحد منهم أحدى وعشرون درهما، وكان عدد العلويّين ألفا وسبعمئة اسم، وفرّق على المجاورين خمسة آلاف درهم وعلى المتردّدين خمسة آلاف درهم، وعلى القرّاء والفقهاء ثلاثة آلاف درهم، وعلى المرتّبين والخازن والنوّاب على يد أبي الحسن العلوي، وعلى يد أبي القاسم بن أبي العابد، وأبي بكر بن سيار رحمه اللّه(7). ويظهر من النص الذي أورده ابن طاووس أنّ السلطان عضد الدولة البويهي عند ما جاء لزيارة المرقد المطهّر وجد المدينة عامرة بالسكان، وأنّ هناك عددا كبيرا من الفقهاء المقيمين فيها. ويدلّ على وفرة طلاّب العلم في النجف كثرة ما بذله عضد الدولة البويهي على القرّاء والفقهاء في زيارته. يقول الدكتور عبد اللّه فياض: إنّ المراد من(المتردّدين)، تعني الأفراد غير المقيمين بصورة دائمة في مدينة النجف، وقد يكون من بين هؤلاء عدد من العلماء والطلبة الذين وردوا لزيارة مرقد الإمام (عليه السّلام) للدرس والتدريس في الوقت نفسه. وممّا يرجّح وجود عدد من المشتغلين بطلب العلم بين المتردّدين هوالتقليد المعروف بين المربّين المسلمين بما فيهم الشيعة الإمامية بالرحلة في طلب العلم الذي كان من مقتضياته أن يرحل الطلبة إلى لقاء الأساتذة، والشيوخ لرواية الحديث عن أهل البيت (عليهم السّلام)(8). ويؤيّد ما ذهب إليه الدكتور فياض ما ورد في زيارة العلاّمة الرجالي الشيخ أبوالعباس أحمد بن علي النجاشي النجف الأشرف عام ٤٠٠ هـ ولقائه بجماعة من علماء الشيعة في زيارة أمير المؤمنين (عليه السّلام) في يوم الغدير، فالتقى بالمحدّث الجليل الشيخ أبي نصر هبة اللّه بن أحمد بن محمد الكاتب المعروف بابن برينة(9) كما التقى بشيخه أبي عبد اللّه بن الخمري، الذي أجاز له في المشهد أن يروي عن الحسين بن أحمد بن المغيرة أبي عبد اللّه البوشنجي(10). وبعد التقدّم العمراني الذي حصل لمدينة النجف في العهد البويهي أخذت الأسر العلمية الشيعية في الكوفة وغيرها تنتقل إليها وتقطنها ويقصدها طلاب العلوم والمعرفة. وكما ترى ممّا تقدّم فإنّ النجف قبل هجرة الشيخ الطوسي إليها عام ٤٤٨ هـ كانت مأوى للعلماء ولم تخل من حركة علمية لعلماء مقيمين فيها، وإنّما لا يرقى إلى وجود جامعة علمية حتى هجرته المباركة، فانتظم الوضع الدراسي وتشكّلت الحلقات العلمية كما يتّضح ممّا كان يمليه الشيخ على تلامذته في كتابه(الأمالي). هجرة الشيخ الطوسي للنجف وتأسيس الجامعة الكبرى استطاع الشيخ الطوسي قبل هجرته إلى النجف أن يؤسّس في بغداد مركزا علميا مهمّا يرتاده الخاص والعام. ونتيجة لقدراته العلمية وقابليّاته المتميّزة منحه الخليفة القائم بأمر اللّه كرسي الكلام والذي لم يكن يمنحه إلاّ لفطاحل العلماء الذين يتمتعون بشهرة علمية واسعة. وقد رفعته جلالته ومهابته وجهوده العلمية المثمرة ومؤلّفاته الكثيرة في مختلف العلوم الإسلامية أن يصبح زعيما ومرجعا للشيعة في بغداد تأوي إليه في مختلف شؤونها منذ وفاة أستاذه السيد المرتضى عام ٤٣٦هـ. ولم تزل حوادث الفتن الطائفية في بغداد تتّسع بعد ورود السلاجقة وأميرهم طغرل بك إليها عام ٤٤٧ هـ، حتى أمر طغرل بك بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبونصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي، ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها، وكانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة كما وصفها ياقوت الحموي(11). وقد أدّى تطوّر الأحداث في بغداد عام ٤٤٨ هـ إلى هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف بعد أن نهبت داره فيها وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام، وأخرج إلى الكرخ وأضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديما يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأحرق الجميع. وبذا انهارت الحوزة الشيعية في بغداد وتفرّق رجالها. وما أن نزل الشيخ الطوسي بالنجف وجاور المشهد المقدّس حتى بدأ بسعي حثيث لتشكيل حلقات علمية صيّرها بعد اثني عشر عاما جامعة علمية كبرى للشيعة الإمامية، ومركزا علميا تشدّ إليه الرحال، ومهبطا لرجال العلم ومهوى أفئدتهم، فاستحقّ الشيخ الطوسي بجدارة أن يلقّب (مؤسّس حوزة النجف العلمية)، ثمّ استحق أن يلقّب بشيخ الطائفة، حتى انصرف هذا اللقب إليه عرفانا بعظيم جهوده وسعة علومه وكثير مؤلّفاته. فعلى صعيد مؤلّفاته له كتاب(التهذيب) وكتاب(الاستبصار) اللذين هما أهم كتبه الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية منذ عصر مؤلّفه حتى اليوم. واستطاع الشيخ الطوسي بكتبه الفقهية وتنوّع أنماطها أن يسدّ كلّ ناحية من نواحي الفقه، فألّف كتاب(النهاية)وهوأهمها على نهج المسائل المنصوصة. ثمّ ألّف كتاب (المبسوط) على طريقة-تفريع الفروع وتبيين أحكامها، وهي- الإستفادة من أدلّة الكتاب والسنّة مع التحفّظ على أصول الشيعة بالاجتهاد، لينفي التهمة الموجهة لفقهاء الشيعة أنّهم غير قادرين على ذلك لعدم اعتمادهم القياس والاستحسان. ثمّ ألّف كتاب(الخلاف)، ويعد هذا الكتاب من أنفس الكتب التي ألّفت في الفقه المقارن. وكتاب(الجمل والعقود)وهوممّا اخترعه الشيخ الطوسي في التأليف، أدرج فيه أصول المسائل الفقهية بعبارات سهلة قصيرة، ليسهل على من يريد حفظها ولا يصعب تناولها، ويفزع إليه الحافظ عند تذكره والطالب عند تدبّره، على حدّ قوله في مقدّمة الكتاب. وللشيخ الطوسي مؤلّفات كثيرة وفي مختلف العلوم كالتفسير وأصول الفقه والرجال والكلام وغير ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) في المصدر: (الحسن بن فرح بن حوشب)، وهوتصحيف للترجمة عن الإنگليزية، والصواب ما أثبتناه. (2) عن كتاب(شيعة الهند)، كما في(موسوعة العتبات المقدّسة) (قسم النجف) : ١/١٩٤. (3) البداية والنهاية: ١١/١٢١. (4) تاريخ الكوفة: ٢٠٣. (5) رجال النجاشي: ٧٤. (6) الذريعة: ١٠/٢١٣. (7) فرحة الغري: ١٥٤. (8) تاريخ التربية عند الامامية: ٢٧٤. (9) رجال النجاشي: ٤٤٠. (10) رجال النجاشي: ٦٨. (11) لاحظ: معجم البلدان: ١/٥٣٤.

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...