مركز تراث الحلة
من هو شكسبير الادب الشعبي العراقي ؟
التاريخ : 9 / 8 / 2018        عدد المشاهدات : 3324

كثيرون هُم من يلجُون إلى بوابة الدُّنيا ويخرجون منها، لكن القليلَ منهُم مَنْ يترك أثراً يدلُّ عليهِ، ويضعُ بصمةَ ابداعٍ لوجودٍ ينبضُ بالحياة، ويسترعي انتباهَ الباحِثينَ عن الثّراءِ الإنسانيِّ، وأيقونات النِّتاج المُميَّز..

وهُنا يكونُ حديثُنا عن قامةٍ شامخةٍ في تاريخِ الأدب الشَّعبيِّ العراقيّ بكُلِّ اتّجاهاتِهِ ومَشارِبهِ، فهو الشَّاعرُ الأُمّيّ الّذي نَازَلَ الفصيحَ بنبُوغِه الشّعريّ، والّذي وصَفَهُ المستشرق الفَرنسيِّ (جاك بيرك) بأنَّهُ أكبرُ شاعرٍ شعبيٍّ في العراق، وقصائِدُهُ تُدوّي على كُلِّ الشِّفاه..

إنَّهُ الحاجّ زاير الدّويج طيَّبَ الله ثراهُ.. المُرتَحِل الى واحةِ المودَّةِ لِبنِي النَّبيِّ الأعظم "صلَّى الله عَلَيهِ وآلهِ"، والمُنعمِ عليهِ بخدمةِ سيِّدِ الطّفوفِ ومالكِ قلوبِ المؤمنِينَ مولانا أبي عبدِ الله الحُسين صلواتُ الله عَلَيه.

ولادَتُهُ :

وُلِدَ الحاج زاير بن الحاج عسكورة بن علي بن جبر عام 1860م/1276هـ في قصبةِ بُرس – بورسيبا – في أطَّرافِ مدينةِ الّحلة – مَدخل مُحافظَةِ بابل مِن جهةِ النَّجف، ويعودُ نسبُهُ إلى بَنِي مُسلم الَّذينَ يقطُنونَ على ضِفافِ الفُرات، ضمنَ منطَقةِ نبيِّ الله ذِي الكفل (ع).

قدْ تأتي الإشاراتُ الخَفيَّةُ من أولياءِ الخلودِ "صلواتُ الله عَلَيهِم" دُونما مُقدّمةٍ أو التفاتَةٍ من المُشارِ إليهِ، وإنَّما هي مِنَّةٌ من هاماتِ الجودِ والسَّخاءِ يمنُونَ بِها على مَنْ يستحقّ الإشارَةَ والعطاءَ..

بدايةُ الحِكايةِ:

هكذا تبدأُ حكايةُ ( الحاج زاير ) رحمةُ الله عليهِ، حيثُ اصطَحبَهُ  والِدُه إلى مدينةِ النَّجفِ الأشرفِ "مهوى أفئدةِ الوالينَ إلى تنسُّمِ عبقِ الولايةِ وإفاضاتِ ذلكَ الأسد الرَّابضِ على الذَّكواتِ البيضِ في الغَريِّ الأغر، فالصَّبيُّ الحِلِّيُّ يفتحُ عينيهِ بقوَّةٍ هذهِ المرَّة على مَشاهِد النَّجفِ الشّريفِ، حيثُ الضّريحُ الطّاهر، والقُبَّةُ الشّامخةُ بين يَدي مملَكةِ السّماء، وأروقَةِ الصَّحنِ الشَّريفِ التي تَعجُّ بالعُلماءِ وطَلبةِ عُلومِ آل محمد صلى الله عليه وآلهِ وسلّم، والنّكهةِ الفُراتيَّةِ بأعذبِ ذائقةٍ لها، فبدأ يرقبُ المباهِجَ والأفراحَ والأتراحَ الَّتي تُغطِّي مَشهدَ المدينَةِ المُقدَّسة.

أدخلَهُ والِدُهُ في مَدرسةِ (القُّوامِ) بمحلَّةِ المِشراق، لِتعلُّمِ مبادئ القراءَةِ والكتابَةِ، وسُرعانَ ما أدركه اليُتمُ برحيلِ أبيه، ليكُونَ بمواجهَةِ العَوَز الّذي حالَ بينَهُ وبينَ إكمالِ مَسيرَتهِ في التَّعلُّم، فعملَ كعاملِ بناءٍ لعدّةِ أعوامٍ، مُختصّاً في إخراجِ الماءِ من الآبارِ للعمل، وعُرِفَ بـ(زاير البرسي).. ومعَ ذلكَ الكَدّ والعنَاء لمْ يُفارِق المجالسَ الأدبيَّة والحُسينيّة الّلتين كانَ لهُما الأثرُ الكبيرُ في تفجيرِ شاعريَّتهِ مُبكّراً..

قريحَةُ الوَلاءِ:

 لقد نَظَمَ الكثيرَ من الشِّعرِ الجيّدِ غيرَ القصائدِ (المنبريّة) الّتي كانَ يقُولُها ارتِجالاً في كُلِّ المُناسباتِ بينَ حشدٍ كبيرٍ من الزّائرين.. وعُرِفَ بأنَّهُ يرتجلُ الأبياتَ الشّعريّةَ بمُجرّدِ أنْ يضعَ يدَهُ على جبينهِ ويقولُ: (ها خويه)..

حتَّى يُخيَّل لسامعيهِ انّهُ قد أعدَّ هذه القصيدة من قبلُ وأجرى عليها تغييراتٍ عديدةٍ لقوَّةِ سبكِها ووحدةِ معانِيها.. لكنَّهُم اكتشفوا هذه الموهبة المدهشة لأنَّهُم أخذُوا يطالبُونَه انْ ينظمَ لهُم قصيدةً مطلعُها على حرفٍ هُم يختارُونَهُ أو موضوعٍ جديدٍ لم يخطُر في بالِه من قبلُ.. وقالَ رحمهُ الله عن ذلك (أنّ نظمَ المُقفّى الموزون أسهلُ عليَّ من الكلامِ العادي).

بدات إشاراتُ الإعجابِ تتوالى على الحاج زاير، وطَبَقَت شُهرتُه الآفاق، ورغِبَ الشُّعراءُ في مُساجلته، وتردَّد اسمُه في المجالسِ الأدبيّة وفي مضايفِ زُعماءِ الفُرات الأوسط..

إشاراتُ العُظماء:

يقولُ المؤرّخُ الكبير السَّيد عبد الرزاق الحسنيِّ" إنَّ الحاج زاير اسرعُ شعراءِ عصرِه بديهَةً ،وينشدُ القصيدةَ التي تبلغُ المئةَ بيتٍ ارتجالاً وفي آنٍ واحدٍ، فيخالُ السّامعُ انَّهُ كانَ يحفظَهَا منذُ مُدّة دونَ إعمالِ فكرهِ، ولَهُ اليدُ الطُّولى في الموّال والابوذية والمربع والميمر"، وكذلك أجمع أكثرُ من باحثٍ وناقدٍ مُتخصّص  بأنَّ الحاج زاير أشعرُ شعراءِ (الحسكة) على الإطلاق، وشعرُهُ صورةٌ ناطقةٌ لِحوادثِ عصرِهِ، وتقاليدِ مُجتمعِهِ وسيرةِ مواطنِيهِ والجيلِ الّذي عاصرَهُ والجيلِ الّذي تلاهُ يُردّد بإعجابٍ فجر أشعارِه، الّتي يجدُ فيها كلُّ شخصٍ ما يوافقُ طلبهُ ويلائمُ غرضهُ، كميزَةِ خلودٍ يتمتّع بها نِتاجُهُ، ولله دَرُّ الأديبِ السّيِّد محمَّد جمال الهاشميّ حيثُ يقولُ:

وزاير في الشعر انشودة                         غنى بها البادي مع الحاضرِ

هلهل في قيثاره مطربا                                  أيامه في لحنه الساحرِ

وما قاله الشاعر السّيِّد علي القصير :

اذا امعنت في لوح المصايرْ                       وجدت الخلق للمجهول سايرْ

وآية قولنا علم فطحل                            بسبك الشعر يدعى حجي زايرْ

 فقد وهب القصيد مذهبات                          وابكارا خوالد في الضمايرْ

 

لقد مثَّل الحاج زاير ظاهرةً متفردةً في عوالم الاستعمالِ الُّلغويِّ في الُّلغةِ المحكيَّة، حتّى أنّ المستشرق الفرنسي جاك بيرك اعتبرَهُ شكسبير العراق.. فالشّعر الشّعبي "والعراقي بالذات" يمثّل سجلّاً مهماً من سِجلّات دِراسَةِ الشّخصيّةِ والذّات العراقيّة والتّطوّرِ الاجتماعيِّ العام. ومن الطّريفِ أنّ العلّامةُ الدكتور (حسين علي محفوظ) زادَ على قولِ (جاك بيرك) بأن أبا الطّيِّب المتنبي لو كانَ قد استمعَ لروائعِ وابداعاتِ الحاج زاير لانتفضَ من قبرِه يُؤدّي التَّحيَّة والإعجابَ والتَّقدير لهذا الالهامِ الشِّعريِّ الكبير.

 

شاعرُ ملحمَةِ الخلود:

توجه شاعرُنا الحُسينيّ الغيورُ بعدَ ذلكَ كُلّيَّاً الى مدائحِ ومراثِي أولياء الخلودِ من أهل بيتِ النُّبوَّةِ صلواتُ الله عليهم أجمعين، طالباً منهم الشّفاعةَ عندَ الله في العديدِ من القصائدِ والمواويلِ والزّهيرياتِ، ومنها:

يا بالحسن ضاك صدري والحشه حامي       من جور دهري عليه ابسطرته حامي

ما من مجير سواكم للدخيل حامي               هل يوم كلت يحيدر حرفتي والحيل

والسمع مني ذهب بعد الظهر والحيل           عني توانوا او اجفوا خلتي والحيل

                        وامسيت (چتان) يا حامي الحمه حامي

 

وذاتَ يومِ قرَّرَ الشُّعراء زيارَةَ الإمام الحُسين صلواتُ الله عَلَيهِ مَشياً على الأقدامِ مع حشرٍ من النَّاس وكان انذاك موسمُ الزِّيارَة وقد طلبَ الشَّاعرُ القديرُ الحاج عبود غفلة رحمَهُ الله من الحاج زاير قائلا " حجي زاير هيّيء قصيدة، باچر نذهب إلى كربلاء الحسين عليهِ السَّلام للزيارة "

فقال الحاج زاير مرتجلا هذه الابيات:

                                   نحسب على حسين إخطَو

 إخطَو حسبنة اعلة حسين                              وبــشــوگ إلـه مـتـــعـنـين

انــزوره ونـــزور السبعين                               ونـــــــزور الـويـاه حطَّوا     

                                 نحسب على حسين إخطَو

نحسب على حسين احساب                             ونـحتج بــابـن داحي الباب

كـــلمن گــــصـدهم مـاخاب                              واعلى الصــراط اتعـدَّوا

                                 نحسب على حسين اخطو

اتــعـــدَّوا ولا يـنـمـنعون                                وبــأمر راعي الميمون

غصبا على المايرضون                                عـــــــن بـاب مـالك ردَّوا

                               نحسب على حسين اخطو

 

فقد وُفِّقَ بكتابةِ قصيدَتِهِ المشهُورَةِ (جينة ننشد كربلة امضيعينهة )

 

جينا ننشد كربلاء مضيعينهة                          بيها زينب كالو ميسرينهة

يسروها و لا لها واحد فزع ..                شال حادي ضعونها بساع و كطع

جينا ننشد وين أبو فاضل وكع..                        ما تدلونا الشريعة وينهة

بس أشوفه و العتب مني يزود               و أدري ابو فاضل على النخوة يجود

عذرة حكه يكول مـكطوع الزنود                    حال ملـك الموت بينه وبينها

جينا ننشد كربلاء عليها العتب                    نـكول هاي رجال وتدور الغلب

حرمة زينب بيش مطلوبه بذنب                      فوك جتل حسين و مسلبينهة

أرد انشدج كربلا عن النزيل                     شلون ضعن الحرم شال بلا دليل

جان كلتيلي يعاونها العليل                            بالمرض مشدوه وينه اوينهة

أرد انشدج هم صدك بالشام عيد              و حطو بطشت الذهب راس الشهيد

و من نشد زينب بديوانه يزيد                            جاعده لو واجفة مخلينهة

 

رحيل الخادم:

أغمضَ الحاج زاير عينيهِ عام 1919م/1337هـ  بعد أنْ رَثى نفسَهُ بشعرِهِ بدقَّةٍ مُلفتَةٍ للانتباهِ، حينَ افصحَ بأنَّ وفاتَهُ قُبيلَ الفجرِ وهو ما حصلَ فعلاً ، فقالَ هذا البيت من (الأبوذية) قُبيلَ أيَّام من ذلك :

وحك التين والزيتون.. والمن

اجروحي الطابن امن اسنين .. ولمن

السدر والجفن والكافور .. والمن                   

 كَبل طرت الفجر يسرون بيه


اعلام مركز تراث الحلة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :