مركز تراث البصرة
عبد الله بن المُقَفَّع (106- 142 هـ) - ( 724 - 759 م)
التاريخ : 29 / 1 / 2019        عدد المشاهدات : 4013

لقد تركت بيئة البصرة العلمية والادبية أثراً بارزاً وكبيراً على ثقافة   كثيرٍ من المُدُن والبُلدان، وأسهمت في بناء تلك الثقافة؛ من خلال العلاقات الثقافية المشتركة، وتنفُّس هذه البيئة من قبل كثير من العلماء والأدباء، الذين قضوا شطراً من حياتهم ينهلون من علومها، وفنونها، ومعارفها، ويتأثَّرون ببيئتها، مما أثَّر إيجاباً في الحركة الثقافية  لبلدانهم، ومدنهم، وشعوبهم، وما خلفته من حضارة، وثقافة، وتراث جميل.

لقد كانت البصرة بيئة جدّ خصبة للعلم، والأدب، واللغة؛ فعلى مرِّ العصور، كانت مرتعا خصبا لمن يقصدها، ويتتلمذ على كبار علمائها؛ ليغترفَ من مَعينها في مجالات العلم  المختلفة، لا سيَّما الأدب، واللغة، والبلاغة، وغيرها من علوم اللغة؛ وكيف لا تكون كذلك، وهي مدرسة اللغة الأولى في بلاد العرب جميعها؟! وكيف لا تكون كذلك، وهي من علَّمَت العالمَ النحوَ، واللغةَ، والأدبَ، والفصاحةَ؟!

وكان ممن جاءها الخليلُ بن أحمد الفراهيدي، ونشأ واستقر فيها، وأصبح من عباقرة علمائها، وحطَّ فيها سيبويهُ رحالَه، وتزوَّدَ من علومها ونَهلَ ، فكانَ عَلَماً من أعلام اللغة فيها، إلى غير هذين من النماذج الكثيرة المُبدعة، التي تأثرت بأجوائها العلمية، والثقافية، وتلألأت في سمائها، وفي سماء العالم أجمع.

وكان من هؤلاء عَلَمٌ أدبيٌّ تركَ أثراً واضحاً على صَفَحات الأدب العربي، بل العالميّ؛ إذ تُرجمت بعضُ أعماله إلى الكثير من اللغات العالميّة، وهو الأديب، المبدع، عبد الله بن المُقَفَّع[1] .

وُلد ابنُ المُقَفَّع في قرية  (جور)[2] ، ومن المؤرّخين  من يرى أنّه وُلد في البصرة، ونشأ في الأهواز، وقضى شطراً من حياته كاتباً للوالي العباسي عيسى بن علي، وأخذَ نجمُه يسطعُ في سماء المدينة بتشجيعٍ من واليها، فأخذت حياتُه تتحوَّل تحوّلاً جذرياً، وسريعاً.

كان ابنُ المُقَفَّع مدرسةً من الثقافات المتنوّعة؛ فقد جمَعَ الى جانب الثقافة العربية، الفارسيةَ، واليونانيةَ، والهنديةَ، وكذا نال نصيباً وافراً من الفَصاحة، والبَلاغة، والأَدَب.

بعدَ أن تعلّمَ الفارسيةَ وآدابَها،  ارتحلَ إلى البَصرة، ولم ينقطع عن مَجالس العُلماء فيها، فكانت موئلَ العلم، والأَدب، والمَعرفة، والثقافةِ بشتّى أَصنافها، ولزمَها، وإن تردَّد على بَعض بلاد العراق، وكانَ يستقدمُ علماءَ اللغة إلى بيته، وكانت البصرةُ يومها زاخرةً بحَلقات العلم، والأَدب، واللغة، والشعر، وفيها سوقُ المربد، التي كانت في أوج ازدهارِها، وكانت أعظمَ مركزٍ للثقافةِ العربيةِ الإسلامية آنذاك، وكذا كانت ملاذاً لعلماء اللغة، والفقه، والحديث، ومُلتقى رجال اللغة، والرواة، فأخذ ابنُ المُقَفَّع يتردَّد على مجالس المربد، ويخالط أصحابَها.

وكذا اتَّصل ببني الأَهتم [3]، وكانوا معروفين بالفَصاحة، والشّعر، والخطابة، ومنهم: خالدُ بنُ صفوان بن الأهتم، المتوفّى بعد  عام (133هـ)،  وهو من حُصَفاء العَرب، وخُطبائها، وُلد ونَشَأ في البصرة على يُسْر.

وكذا كان ابنُ المُقَفَّع يجالسُ الأمراءَ، فيُعجَبون بكلامه، وحججه ، وله أخبارٌ في هذا المجال ذكرها الجاحظ[4].

 وممّن تأثر بهم ابنُ المُقَفَّع، وأخذَ عنهم الفصاحةَ، أبو الجاموس، ثورُ بنُ يزيد، وهو أعرابيٌّ كان يَفِدُ البصرةَ على آلِ سُليمان بنِ علي[5] ، فكان في ذلك سرُّ بَراعته في العربيّة، وإحاطتِه بأسرارها وأساليبها، وبذلك جَمعَ بين الثقافتين: الفارسية، والعربية،  وكان جسراً بينهما، أتاح لهُ أن يُدخل عناصرَ إبداعيةً جديدةً الى الأدب العربي، الأمر الذي نشهده بوضوح حين تتبُّع الأسلوب الأدبيّ السهلِ الممتنعِ في كتابِه: (كَليلةُ ودِمْنة).

تركَ ابنُ المُقَفَّع آثاراً أدبيةً كثيرةً، امتازت بالبُعد الإنساني، واحتوَت الحكمةَ، والأدبَ، والأمثالَ، وكذا تضمَّنت قواعدَ عامّةً في الإدارة، والسياسة، والأخلاق،  منها:  كتابه الشهير (كليلة ودمنة)، الذي ترجم الى(29) لغة[6]، و(الأدب الكبير)،  و(الأدب الصغير) ، و(رسالة في الصحابة) ، و(الدرة اليتيمة).

قال الأصمعي: قيل لابن المُقَفَّع: من أدَّبَك؟

قال: نفسي، إذا رأيتُ من غَيري قبيحا، أَبَيتُه، وإذا رأيتُ حَسَنا، أَتَيتُه.

ومن كلامه: شربتُ من الخطب ريّا، ولم أضبط لها رويّا، فغاضَتْ، ثم فاضَت، فلا هي نظاما، ولا نسيت غيرها كلاما[7].

كان قلمُ ابن المُقَفَّع يقفُ كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلامَ يزدحمُ في صَدري ، فيقفُ قَلَمي ليَتَخيَّر[8] .

أصبحَ ابنُ المُقَفَّع مَحَطَّ أنظار الأُمَراء والوُلاة، وعَلا شأنُه عندهم؛ فقلَّدوه وظائفَ كتابيةً مهمة، فكتبَ  لآلِ هُبَيْرَة في الدولة الأموية،  ولعدّة ولاةٍ  من بني العبّاس،  منهم: سليمان بن علي، والي البصرة.

تعرَّض ابنُ المُقَفَّع لظُلم الدولة العباسيةِ؛ فقد كان جلاوزةُ هذه الدولة الظالمةِ يأخذونَ الناسَ على الظنّة، وكانت تُهمة الزندقة جاهزةً لديهم، يلبسونها كلَّ منْ خالفهم في الفكر أو الموقف والعقيدة، وقد تعرض وقتها الكثيرُ من الأدباء والمفكِّرين الى أشدِّ صنوف التعذيبِ، وقُتلوا بأبشع الطُرق؛ لاتهامهم بالزندقة.  

ونتيجة لما رآه ابنُ المُقَفَّع من الظلم والجور من الحكّام، ظهر ذلك في كتاباته، التي كان أغلبها يتميّز بالرمزيّة،  ومنها: ما جاء على لسانِ الحَيوانات، مثل كتاب (كليلة ودمنة)، وقد كان نقدُه اللاذعُ للسُّلطة سبباً رئيساً في حَنَقِ الوُلاةِ عليه، والتخطيطِ لقتلِه، والتخلُّصِ منه، وتمَّ ذلكَ لهم للأسف؛ إذ قتلَه والي البَصرة ، سُفيان بن معاوية، من آلِ المهلَّبِ، عام (142هـ)، زَمَنَ حُكومةِ المَنصورِ العباسيّ.

وبقتله فَقَدَت اللغةُ العربيةُ أديباً بليغاً، وكاتباً فَصيحاً، تركَ أثراً واضحاً على الأدبِ العربيّ.

 

[1] أبو محمد، عبد الله بن المُقَفَّع (106- 142 هـ)، بتشديد الفاء، وفتحها، على وزن اسم المفعول، اسمه الاصليُّ:  روزبه بن داذويه، اعتنق الاسلام بعد أن كان مجوسياً، وعاصر الدولتين: الأموية، والعباسية ، لُقِّبَ والدُه بالمُقَفَّع؛ لأنه عوقب  من قبل الحجّاج بن يوسف  الثقفي ـ لاتّهامه بالسرقة من بيت مال المسلمين ـ بضربه على يديه حتى تقفَّعَتا، أي: تورَّمتا، وتيبَّستا.

[2] مدينة من مدن إيران، ينسب إليها الورد الجوري؛ لشهرتها فيه.

3- يُنظر: ابنُ المُقَفَّع، أديب العقل، للدكتور فكتور الكك، ص6. (دار الكتاب اللبناني –بيروت – الطبعة الاولى ، 1986.

[4] - يُنظر: عبد الله بن المُقَفَّع، حياته ، آثاره ، أدبه ، إعداد: مأمون محي الدين الجنّان، ص29. دار الكتب العلمية ـ بيروت.

[5] - الفهرست ، لابن النديم ، تحقيق وتعليقات: الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2016، ص107.

[6]   - يُنظر: عبد الله بن المُقَفَّع، حياته ، آثاره ، أدبه ، ص31.

[7] - البداية والنهاية، لابن الاثير ، ج10، ص99 ، طبعة دار الكتب العلمية، 1987.

[8] زهر الآداب وثمر الألباب، لإبراهيم بن علي الحصري القيرواني، ج 1، ص 115، دار الكتب العلمية / الطبعة الثانية 2011م


ياسين يوسف اليوسف


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :