مركز تراث الحلة
الناقد عبد الجبّار عــبَّاس
التاريخ : 12 / 12 / 2019        عدد المشاهدات : 1901

يُعدّ النقد بلا شكٍّ من المزايا السامية في رحاب الأدب، وفي مدينة الحلّة كان للنقد رجال مارسوا فيه دورًا رائعًا، منهم المرحوم عبد الجبار عــبَّاس كان من أقطاب النقاد وفي طليعتهم؛ لأنّه كان يعتزّ بأصوله، وتراثه التاريخيّ الثرّ من شعر ونثر، وكان يعتمد أسلوبًا فريدًا وطريقة رائعة في التفكير، وذائقة في الخيال والعاطفة، ومن كلِّ هذا التراث المعنويّ الذي يشمل ما ادّخرته الإنسانيَّة من فَنٍّ، وفلسفةٍ، ورأيٍ، ودينٍ، فلقد كان يستلهم ما يشاء من حقائق نقديَّة متطوّرة متجاوزًا الظروف الخارجيَّة؛ لأنَّه يتمركز حول النصّ بوصفه كيانًا جميلًا في ذاته وهذا هو التصوّر النقديّ الحقيقيّ، وقد حظى باحترام الأدباء في هذه المدينة التي كانت وما زالت تسمو في آفاق العلم والمعرفة، فحظيت بلقب(مدينة العلم والعلماء)، وقد حظيت ذكراه باهتمامنا؛ لذا نسلط الضوء على حياته لنتعرف على بعض منها فهو:

عبد الجبّار عـبَّاس المشهديّ، ويعرف بـ(جبّار عبّوسي العطَّار)، ولد في مدينة الحِلَّة سنة 1362هـ - 1941م، وأكمل فيها دراسته الابتدائيَّة والمتوسّطة والإعداديَّة، قُبل طالبًا في كليّة الآداب- جامعة بغداد، وتخرّج فيها سنة (1964م) وحصل على شهادة البكالوريوس في اللّغة العربيَّة وآدابها.

تتلمذ الناقد عبد الجبّار عـبَّاس على الناقد الدكتور علي جواد الطّاهر (رحمه الله)، فأخذ منه حسَّه الانطباعيّ في النقد، وهو كما قال عنه الطاهر:  فيه موهبة ووقفة واعية متأنّية تدرك سرّ النصّ في أصالة وشخصيّة وذوق ورهافة وضمير يرعى الشكل كما يرعى المضمون.

الدكتور علي جواد الطّاهر

ثقَّف نفسه بنفسه، وقرأ مصادر الأدب ودواوين الشّعر العربيّ والأجنبيّ بتوجيه من أستاذه الطاهر.

لم يحصل على تعيين أو يُقبل بوظيفة، إنَّما بدأ الكتابة للصفحة الأدبيَّة في جريدة الأنباء الجديدة التي كانت تصدر في بغداد، وكذلك مراسلة مجلّة (الآداب) التي كانت تصدر في بيروت، وشارك في مجلّة (الكلمة) في النجف الأشرف، وفي سنة (1970م)، حصل على وظيفة في إذاعة بغداد، لكنَّه لم يتحمّل ذلك فتركها، وعاش على الكتابة وتحرير الصفحة الأدبيَّة في جريدة الراصد العراقيَّة، واتفق مع جريدة الثورة التي كانت تصدر في بغداد على كتابة مقال نصف شهري، لكنَّه ترك ذلك أيضًا؛ بسبب كرهه لقيود الوظيفة.

ربَّما يكون عبد الجبّار عـبَّاس الناقد العراقيّ والعربيّ، الوحيد الذي دافع عن موقفه واختياره كناقد انطباعي بصورة علميّة ومنطقيّة، خصوصًا في اللقاء الشامل الذي أجراه معه الروائيّ (عائد خصباك) الذي أعلن فيه بلا تردد: "أجهر بأنّي ناقدٌ انطباعي"، ونشر في العدد السادس لمجلّة الأقلام، سنة (1985م).

وعمل في منتصف السبعينيّات في الإذاعة العراقيَّة معدًّا لبرنامج الشعر، بعدها عهد إليه الإشراف على تصحيح لغة المقالات المُذاعة ليتطوّر الأمر لاحقًا إلى إشراكه في مشروع أرشيف القصّة العراقيّة الذي تولّت الإذاعة تنفيذه منذ نشأت القصة في العراق وحتَّى السبعينيّات، وقرأ عبد الجبّار عـبَّاس في هذا المشروع أهم النتاج القصصيّ العراقيّ ووقف عند أبعاده وتنوعات فنّ القصّة العراقيَّة القصيرة فخرج بحصيلة نقديَّة كبيرة مكَّنته لاحقًا من أن يبني مقاله النقديّ على خلفيّة أرشيفيَّة وعلى قراءات متمعّنة كثيرة، إلَّا أنَّ هذا الأرشيف فُقِد بعد سنوات من الإذاعة في ظروف غامضة، ولأنّه لم يكن منتميًا لحزب السلطة فإنَّه لم يبقَ في الإذاعة إلَّا فترة قصيرة، وعمل بعدها في جريدة الراصد الأسبوعيَّة، وفيها كان يحرر ركنًا سمَّاه (الراصد الأدبيّ) حيث كانت مقالته القصيرة نافذة على أدب الشباب الذي يشرف عليه في هذه الجريدة وبقيت هذه المقالات القصيرة مجتمعة في دفتر صغير بعنوان (الراصد الأدبيّ) لم تُطبع إلى الآن.

الروائي عائد خصباك

وعند الحديث عن النقد العراقيّ الحديث نجد الناقد عبد الجبار عـبَّاس من بين الأسماء الممّيزة فيه.

وقد انشغل هذا الناقد في أوّل عهده بكتابة الشعر، فأصدر ديواناً أسماه  (أشواك الوردة الزرقاء) لكنَّه لم يحقّق فيه شيئًا مهمًا يذكر، وقد انتبه نتيجة دراسته الجامعيَّة للأدب العربيّ إلى أهميّة النقد في الحياة الثقافيَّة، حيث كان قارئًا مهمًّا للدوريات الثقافيَّة خاصّة الرسالة والكاتب المصريّتين، ثم مجلّة الآداب لاحقًا التي احتضنت نتاجه النقديّ، ثمّ تابع بشغف الشاب المتطلّع حركة الشّعر العراقيّ الحديث، فكتب عام (1963م) مقالًا في مجلّة الآداب وهو ما زال طالبًا في قسم اللّغة العربيَّة بكليّة الآداب عن كتاب نازك الملائكة (قضايا الشعر الحديث) فأثار إعجابًا لدقّته في المتابعة والرصد لحركة حديثة، ثم شغف بالسيّاب خصوصًا فأصدر في عام 1971 كتابه (السيّاب) وهو باكورة جهد نقديّ متفرّد حيث أنّ الكتاب النقديّ الجاد الذي خصَّص كلّه لشاعر واحد ومن مفرداته النقديّة: البداية، والتضحية، وبين السيّاب وأليوت، وأخيرًا الموت، وكلّها فصول تعامل السيّاب بها شعريًا مع موضوعات كونيّة كبيرة، كما ذكرها اليعقوبيّ في كتابه (البابليّات).

ثم تحدّث عبد الجبّار عبَّاس في كتابه عن فكرة التجديد والانبعاث وهي الفكرة المحوريّة التي تؤمن بها الديانات ثم فكرة الحداثة، حداثة الإيقاع وحداثة الصورة وحداثة البنية متزامنة مع النتاج الشعريّ العربيّ الذي بدأ في هذه المرحلة أعني الستينيّات؛ ليطوّر أدواته المعرفيَّة خارج أُطر القصيدة التقليديَّة، وكلُّ هذه المفردات جديدة على النقد العراقيّ.

الشاعر بدر شاكر السياب

إنَّ ما ميّز عبد الجبّار عبَّاس هو إخلاصه الواضح للكتابة التي بدأها متسلحًا بالمنهج الانطباعيّ، إذ اقتفى فيه آثار أُستاذه علي جواد الطاهر وكان لديه ميل واضح وجليّ نحو كتابة المقالة الأدبيَّة النقديَّة، كما في مقالته (الظامئون) في كتابه (مرايا على الطريق) التي تضمَّنت إحالة إلى عنوان رواية (الظامئون)؛ لأنَّه يرى أنَّ النقد مرآة للعمل الإبداعيّ تعكس ملامحه، مثلما يعكس الإبداع الواقع، ولربَّما كان تأثير الطاهر عليه بدوافع اجتماعيَّة ومكانيَّة؛ لأنَّهما أبناء مدينة واحدة هي (الحلّة).

وذكر في معجم المؤلِّفين والكتّاب العراقيّين: كتب كتابًا جديدًا سمَّاه (في النقد القصصيّ) صدر عام (1980م) وجمع فيه نتاج عقد من الزمن يمثّل كما قال عنه: " مرحلة مهمّة من تجربتي النقديَّة فهو ثمرة حب لفنّ القصّة، وجهد لأن أُعطي في نقد أشياء أطمئن لصحتها وقدرتها على التواصل) "

المعروف عن عبد الجبّار عبّاس أنَّه لم ينتمِ إلى أيّة جهة أو حزب، وعندما بدأ في الكتابة النقديَّة عن الشعر كان يردفها باطلاع واسع على الأدب العربيّ والأجنبيّ الموضوع منه والمترجم.

قدَّم عبد الجبّار عبَّاس كتابًا آخرَ هو "الحبكة المنغَّمة" وقام بإعداده الدكتور علي جواد الطاهر، وعائد خصباك، صدر عام (1994م) أي بعد وفاته بسنتين وفيه مقالات في نقد الشّعر والقصّة، وجمع فيه كعادته بين نقد الشعر ونقد القصّة، وقد بقي هذا الكتاب سنوات طويلة في أدراج مؤسّسة الشؤون الثقافيّة لدى الدكتور محسن الموسويّ.

وإذ يتنقّل عبد الجبّار عبّاس بين العمل في الصحافة والعمل النقديّ الجاد نجده يلتزم بما يكتبه ويقوله فقد وجد في الكتابة مسؤوليّة مَن يتفهّم طبيعة الأدب العراقيّ الشاب، ليصدر في عام(1970م) كتابًا مهمًّا هو "مرايا على الطريق" وهو من أهمّ الكتب النقديَّة التي تعاملت مع النص لوحده بمعزل عن أيِّ مرجعيّةٍ لنقّادٍ آخرين، حيث عالج فيه القصّة والشّعر والمقالة، وفي هذا الكتاب الذي لاقى اهتمامًا جيِّدًا في الأوساط الثقافيَّة نجده قلمًا متمكّنًا، ورأيًا وطيدًا، مُلمًّا بأركان موضوعه إلمام العالم.

وقال الطاهر: إنَّه شاعر عمود وتفعيلة، هو فتى النقد الأدبيّ في العراق، وإنّه الناقد الذي حاز على لقب الناقدّ بحقٍّ، ويكفي أنَّه وهب نفسه للنقد وحده، لم يُشرك به عملًا آخر، ولم يشغل تلك النفس بوظيفة تقيّده، فكان بذلك متفردًا بين مَن زاول النقد في العراق، والوطن العربيّ.

ذكر د. عبد الرضا عوض في كتابه (أدباء وكتاب بابل المعاصرون): " شاعر وناقد من النقّاد العراقيِّين والعرب المرموقين، ترك إرثًا لا يُستهان به في الأدب والشعر والنقد، منها: أشواك الوردة الزرقاء، ومرايا على الطريق، والسيّاب، وفي النقد القصصيّ، ومرايا جديدة، والحبكة المنغَّمة، والخطوة الأولى (مخطوط)، وعبد المحسن طه بدر ناقدًا (مخطوط) ".

رحل عبد الجبّار عـبَّاس إلى جوار ربِّه يوم الخميس 3/12/1992، في مستشفى مرجان في الحِلَّة إثر جلطة دماغيّة وترك وراءه تراثًا مهمًّا في مجال النقد والشّعر.

 

 


اعلام مركز تراث الحلة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :