مركز تراث الحلة
القبتان المخروطيَّـتان في الحِلَّة
التاريخ : 3 / 5 / 2020        عدد المشاهدات : 2199

تنتصب في الحِلَّةِ قُبّتان مخروطيتان، تبعد إحداهما عَن الأخرى نحو خمس وعشرين كيلومترًا، الأولى داخل المدينة في منطقة باب الحسين وقد شُيِّدت، إكرامًا لمُصلَّى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وإحياءً لكرامةٍ حصلت له في هذا المكان، والأخرى في مدينة الكفل، إحدى نواحي محافظة بابل، وقد شُيِّدت على قبر أحد أنبياء بني إسرائيل الملقَّب بذي الكفل، فهاتان القُبّتان تُذكِّر إحداهما الأخرى؛ وذلك للتشابه القائم بينهما، فشكلهما ميَّزهما عمَّا ينتصبُ في هذه المدينة من المنائر والمآذن والقباب.

منارة مشهد الشَّمس

قبل أن نعرض الحديث الذي يُخبر المتلقِّي بالفترة التي شُيِّدت فيه هاتان القبَّتان، علينا أن نصحِّح معلومة مغلوطة يتناقلها سكَّان الحلَّة، أو سكَّان أي مدينةٍ انتصبت على أرضها مثل هاتين القبَّتين، فالأعمُّ الأغلب مِن سكَّان مدينة الحِلَّة يُطلق على هاتين القبَّتين اسم المنارة يريدون بذلك المئذنة فيقولون: (منارة مشهد الشَّمس)، و(منارة ذي الكفل)، والحقيقة أنَّ المنارة ضرب من ضروب العمارة الإسلاميَّة، تُبنى على شكل أبراج مرتفعة للاستطلاع، واستُعير هذا اللفظ إلى ما يُبنى في المساجد والجَّوامع على الشَّكل نفسه؛ لرفع الأذان للصلاة، ولمَّا شاكلت هاتان القبَّتان أشكال المنائر المآذن، أطلق العوامّ عليها اسم (المنارة) أو(المئذنة).

منارة ذي الكفل

فالشَّكل الخارجيّ لهذا النَّوع مِن القباب يشبه إلى حدٍّ بعيد الشكل الخارجيّ للمآذن والمنائر، إلَّا أنَّ طريقة البناء والشكل الداخليّ فمختلف كثيرًا، فالمنائر أو المآذن، لا بُدَّ من وجود السُّلَّم في داخلها؛ ليرتقي المؤذِّن إلى أعلاها، ويصدح بالأذان، أمَّا هذا النَّوع من القباب فليس فيه سلَّم؛ لأنَّ وظيفة هذه القباب ليس كوظيفة المآذن والمنائر، فهي تُشيَّد كما تُشيَّد اليوم القباب المعروفة التي تُعقد على قبور الأولياء والأصفياء؛ لكنَّ شكلها بالقياس إلى ما نراه اليوم مختلفٌ جدًّا، فطولها المنخرط إلى الأعلى جعلها تُشبه المنائر والمآذن، فضلًا عن التجويف في عموم تلك القباب التي تخلو منه كلُّ منارةٍ أو مئذنةٍ.

يرى بعض الباحثين في التراث الإسلاميّ أنَّ هذا اللون من القباب ممتدٌّ عبر العصور، وصولًا إلى حضارات وادي الرافدين القديمة، وهذا النَّوع يُعدُّ تطوّرًا للنَّمط المعماريّ السَّائد في تلك الحضارات، فالعراقيّون القدماء عرفوا فنَّ عقد الآجر وعمل الزَّخرفة في تصفيفه ورصِّه أثناء البناء، فهي تُعدُّ الأنموذج المتطوِّر لفنِّ عقد الآجر على شكل القبَّة، والحقيقة أنَّ هذا الرأي لا يصمد أمام التحليل والتعمُّق في النَّظر؛ لأنَّ القباب فنٌّ إسلاميّ لم يكن له وجود قبل الحضارة الإسلاميَّة، أمَّا عن وجود بعض السقوف المقوَّسة في بعض المباني الأثريَّة التي ظهرت إلى العيان بعد التنقيب في أماكن متعدِّدة من البلد، لا يُعدُّ نقطة بدء لما نراه اليوم شاخصًا أمام أعيننا من هذه القباب، فضلًا عن أنَّ لكلِّ حضارةٍ عمرانها الخاصّ بها الذي يميِّزها عمَّا سواها، فعلى سبيل المثال، وأنت تستعرض فنَّ العمارة الإسلاميَّة، تجد من جملتها الأقواس، فالأقواس التي شُيِّدت في العصر الأمويّ لم تُشبه الأقواس التي شُيِّدت في العصر العبَّاسيّ، فهي مختلفةً تمامًا، فعلى الرّغم من توحُّد الأنموذج العمرانيّ في الحضارةٍ الواحدة، تجد ذلك الأنموذج مختلفاً مِن حقبةٍ إلى أخرى، ومِن زمن إلى آخر، فكيف يمكن القول: إنَّ هذه القباب جذورها ممتدَّة عبر التاريخ؟ ففنُّ العمارة رافق الإنسانيَّة منذُ فجرها، وسايرها عبر العصور والدّهور، ويرافقها - في جميع تلك المراحل - التطوُّر والتحوّل المستمرَّان.

أمَّا ما أجمع عليه أغلب الباحثين في فنِّ العمارة الإسلاميَّة، فإنَّ شيوع تشييد هذا النوع من القباب في العراق يعود إلى الفترَة ما بين القرن الخامس والقرن السابع الهجريِّين، أمَّا عن منشأ هذا الطراز المتميِّز في فنِّ العمارة الإسلاميَّة فمردُّه إلى بلاد فارس؛ إذ يوجد في إقليم خراسان ضريح لأحد شخصيَّاتهم معروف بـ(ضريح جند قابوس) في مدينة جرجان، أُرِّخ تشيِّده عام(397هـ ــ 1007م)، فيعزو الباحثون في فنِّ العمارة الإسلاميَّة أنَّ هذا الفنِّ المتميِّز منشأه بلاد فارس، ثمَّ انتشر في سائر أنحاء الشرق الإسلاميّ في مدَّة حكم السلاجقة(447-656هـ/1055-1258م)؛ لذلك تجد بعض الباحثين والمؤرخين يطلقون على هذا النوع من القباب(القباب السلجوقيَّة).

ضريح جند قابوس​

والحقيقة أنَّ هذا الفنّ من العمارة أضفى على المقامات والمراقد التي شُيِّد عليها هيبةً وسمُّوًا وشموخًا، فضلًا عن تعبيره عن المكانة الروحيّة التي يحتلّها ذلك المقام أو المرقد في الوسط الاجتماعيّ.

فقبة مقام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نُصِبَتْ في هذا المكان للشرف الكبير الذي حظيت به مدينة الحِلَّة قبل أربعة عشر قرنًا بمرور الإمام علي (عليه السلام) فيها، وذلك عندما عزم(عليه السلام) على مقاتلة القاسطين، وذلك في معركة صفين سنة (37هـ). يقع هذا المقام إلى الشَّمال الشَّرقي من مركز المدينة، حيث تنتصب قبَّةٌ مخروطيّة تزيِّنها المقرنصات التي تتراءى إلى العين من جميع الجهات.

يُعرف هذا المقام بين أوساط الحلّيِّين بمقام (ردّ الشَّمس)، وهذه التَّسمية مأخوذة من الحادثة التي حدثت في هذا المقام، فقد أجمعت كتب التاريخ والسِّير على أنَّ الإمام عليّ(عليه السلام) حدثت له كرامة في هذا المكان، حيث رُدَّت له الشَّمس ليتمَّ صلاة العصر، ففضلًا عن قيامه مُصلّيًا في هذا الموضع، كُرِّم بردِّ الشَّمس كي تكون صلاته بوقتها، فأخذت هذه الحادثة مأخذها من نفوس محبِّي الإمام عليّ(عليه السلام) فخلَّدوا هذه الذِّكرى بهذا المكان الذي أصبح فيما بعد مزارًا يقصده القاصي والدَّاني، تبرُّكًا بمقام كُرِّم فيه واحد من أعاظم أولياء الله تعالى.

وهذا المقام أحد مقامين في الحِلَّة شُيِّدت عليه قبَّة مخروطيَّة، تقوم هذه القبَّة على غرفة مثمَّنة، أطوال أضلاعها متساوٍ، ويبلغ كلٌّ منها(1,80م)، وينتهي كلُّ ضلعٍ بجدار بارز يمتدُّ داخل الغرفة بمسافة(1,30م)، فيكون عدد الأضلاع البارزة داخل الغرفة ثمانية أضلاع، وتبدأ الزَّخرفة من ارتفاع (2,50م)، وتتكوَّن أوَّلًا مِن أربعة صفوف من المقرنصات تحوي أقسامًا مختلفة، أوَّلها زاوية الجِّدار البارز في الغرفة، فهي في الصَّفِّ الأوَّل تكون بشكل دخلة متوَّجة بعقد مدبَّب، تتحوَّل في الصَّف الثَّاني إلى دخلتين في ركني الجِّدار، وفي الصَّفِّ الثَّالث تكون حنية تتوسَّط الجِّدار، وتكون في الصَّفِّ الرَّابع مقرنصتين تامَّتين تحدُّهما نافذتان، فالذي يقف في منتصف الغرفة، ويرمي ببصرِه إلى الأعلى، يجد أنَّ القبَّة قد شُيِّدت بمهارةٍ عالية جدًّا، فيجد المقرنصات تتراصف صفوفها واحدًا فوق الآخر بانتظام، ولا يكاد النَّاظر أن يُحصي عدد صفوف تلك المقرنصات، وعدَّها في الصَّفِّ الواحد، إذا ما أمعن النَّظر جيِّدًا؛ لأنَّ عملها مُتقن للغاية، وهذا ما جعلها متشابهة فيما بينها يصعب عدَّها، ولكن ليس ممتنعًا، فعددها أربعة عشر صفًا مع غطاء القبَّة، وهذه الصُّفوف مختلفة في حجمها وحجم المقرنصات فيها، فهي تزداد ضِيقًا كلَّما اتَّجهت بنظرك إلى الأعلى، وصفوف المقرنصات في هذه القبَّة على شكلين؛ الأوَّل تكون على شكل دخلات برؤوس مدبَّبة، وهي كبيرة، إذا ما قيست بالتي هي أعلى منها، وتتخلَّلها نوافذ ثمانية، وأمَّا الثاني فتكون صغيرة الحجم، إذا ما قِيست بالتي هي أسفل منها، وتبدأ هذه المقرنصات عند الصَّفِّ الخامس، وتنتظم عددها فيه وفيما يليه، حيث يكون عددها أربع وعشرون مقرنصًا في الصَّفِّ الواحد، حتَّى تصل إلى غطاء القبَّة فتجده على شكل نجمي بأربعة وعشرين رأسًا.

ولا توجد داخل القبَّة غير هذه المقرنصات البديعة التي تأسر النَّاظر إليها، فضلًا عن تلوين الحدود بين المقرنصات باللون الأسود، ممَّا يُضفي على المكان طابعًا هندسيًا جميلًا، ويبلغ طول هذه الآية العمرانيَّة(20,5م) من القاعدة إلى غطاء القبَّة.

أمَّا الشَّكل الخارجي لهذه القبَّة، فتقوم مقرنصاتها على تلك القاعدة المثمَّنة إلى نهاية القبَّة، وتتصاغر أحجام تلك المقرنصات كلَّما اتَّجهتْ نحو الأعلى، ويُزيِّن تلك القبَّة في النِّهاية لفظ الجَّلالة (الله).

ويرى بعض الباحثين والمعنيين بالتُّراث الإسلاميّ أنَّ تاريخ تشييد هذه القبَّة يعود إلى الرُّبع الأوَّل من القرن السَّادس للهجرة على صاحبها وآله صلوات الله تعالى.

وقبة ضريح نبي الله ذي الكفل(عليه السلام)، في منطقة جنوبي الحلَّة ناحية تُعرف بـ(الكفل) تبعد عن مركزها خمسًا وعشرين كيلومترًا تقريبًا، أخذت هذه المدينة اسمها من اسم نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل دُفن فيها، وهو نبيُّ الله ذو الكفل الوارد ذكره في القرآن الكريم في سورتي" الأنبياء:85، وسورة ص 48"

والذي يميِّز هذا المرقد عن سواه من مراقد الأنبياء والصالحين في محافظة بابل هو تلك القبَّة المخروطيَّة التي تنتصب على القبر الشريف، وهذه القبَّة دائريَّة من الداخل مخروطيّة من الخارج، تقوم هذه القبَّة على شكلٍ منحنٍ ما إن يرتفع قليلًا حتَّى يتحوَّل الى دائريّ عن طريق بناء حنية كبيرة بعقدٍ مدبَّبٍ في كلِّ زاوية من زوايا المربع الذي يضم القبر الشريف، وتعلو تلك الزوايا مقرنصات تتكاثر كلَّما ارتفعت نحو الأعلى إلى أنَّ تأخذ الدائرة شكلها الأخير فوق القبر.

   ويلاحظ وجود زخارف نباتيّة عُملتْ على الجصّ بألوان زاهية مختلفة، وتبدأ هذه الزخارف على ارتفاع ما يقارب ثلاثة أمتار من الأرض، كما تُلاحظ زخارف أخرى معمولة مِن قطع الزجاج ذات أشكال هندسيَّة مختلفة، وكذلك كتابات باللغة العبريَّة، ويبلغ ارتفاع هذه القبة من الخارج سبعة عشر مترًا، تقوم فوق قاعدة ضخمة تتألف من عشرة صفوف من الحنايا المعقودة المقرنصة، تجد الصفوف الستَّة الأولى مِنها تتألف من ست عشرة حنيَّة، والملاحظ على الصفِّ السادس أنَّ ثماني من حناياها تبرز عقودها بروزًا شديدًا عن الحنايا الباقية، للانتقال إلى الأسفل المثمَّن الذي يعقب الصفّ السادس، ويستمرُّ حتّى الصفّ العاشر حيث قمّتها المضلعة، ويبدو أنَّ ارتفاع صفوف الحنايا يتناقض بالتدريج كلَّما ارتفع ويضيق؛ ليتمَّ عقد القبَّة وإغلاقها بالتمام.

 


اعلام مركز تراث الحلة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :