تاريخ البصرة

مدينة (القرنة) في كتابات الرَّحَّالة والمسؤولين الأجانب-القسم الثَّاني

 مدينة (القرنة) في كتابات الرَّحَّالة والمسؤولين الأجانب-القسم الثَّاني

تُعدُّ مدينة القرنة من أشهر المدن العراقيةالبصريةذات الأهميَّة الكبيرة بسبب طبيعتها الجغرافية التي جعلتها مركزاً تمرُّ به القوافل التجارية وكذا الرحلات القادمة من بغداد وإليها أو إلى الخليج العربي، لذا لا يأتي رحَّالة إلى العراق إلَّا ويمرُّ بها، ولذلك نجد أنَّ أغلب الرحَّالة والمسؤولين الأجانب قد كتبوا عنها معلومات مفصَّلة ودقيقة وهذا يرفدنا بمعلومات قد تفتقر لها مصادرنا المحلَّية. يُضاف إلى ذلك: أنَّ توافد المسؤولين الأجانب إلى العراق كان لتحقيق غايات وأهداف مختلفة, وهذا ما عكس لنا مدى الاهتمام الأوربي المتزايد بمناطق الشرق عموماً والعراق على وجه أخص؛ لما يمتاز به من موقع جغرافي متميز، وثروات طبيعية هائلة. وكانتْ مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق عام(1914-1920م )أهم مرحلة في تأريخه الحديث في هذا المجال، إذ شهدتْ توافد عدد كبير من المسؤولين الأجانب، لاسيَّما البريطانيين، ونتيجة لذلك، ظهرتْ عدَّة كتابات ومذكَّرات لأولئك المسؤولين ومنهم على سبيل المثال: (ديكسون) و(المس بيل)، وغيرهم كثير . وفي هذه المقالة التي هي استكمال للمقالة الأولى والتي بيَّنا فيها المعلومات التي ذكرها عدد من الرحَّالة الذين زاروا العراق ومرُّوا بمدينة (القرنة)، سنحاول أن تسلِّط الضوء على المعلومات التي ذكرها (سيرل بورتر) عن المدينة بجوانبها المختلفة . (سيرل بورتر) هو أحد الضبَّاط البريطانيين في الهندسة العسكرية كانتْ ولادته عام (1895م)، وقد اتجه مع الحملة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى إلى الهند أولاً, ثُمَّ إلى منطقة الخليج العربي، وبعدها إلى العراق ، وقد تزوَّج من سيدتين عراقيتين وأنجب عدداً من الأولاد منهم (راشد )،ابنه البكر . إنَّ المعلومات التي وصف بها (بورتر) مدينة (القرنة) كانتْ عبارة عن معلومات يرسلها إلى أخته (دورا ) ليطلعها على المناطق التي يصل إليها ويصف أحوالها المختلفة وجوانبها المتنوعة بدقَّةٍ متناهيةٍ. جمال الطبيعة يذكر (سيرل بورتر) واصفاً (القرنة): ((أنَّها قرية صغيرة جداً يقال فيها شجرة آدم ... )). ويضيف: ((المنطقة هنا أخَّاذة فعلاً لم تُستنزف من قبل البشر بعد، والأهوار تملء الأرض كلَّها، مساحات من الأرض المزروعة الخضراء، وثَمَّ مساحات ومساحات من ألق المياه والمستنقعات المائية التي تبدو مثل المرايا الملتمعة، ورغم عتمة الليل وطول الأماسي ،إلَّا أنَّ السير ليلا يغمرني بالنشوة، فالنجوم تزهو بأشعَّتها القوية, وتجدينها تغفوا وتتلألآ بزهو, ثُمَّ ترنو إليَّ، ومراقبتها تغمر الروح بالسكينة والطمأنينة وتعادل ساعات من اليوجا ( رياضة تأمل عند شعوب شرق آسيا)، والأرض شاسعة وتبدو واسعة جدَّاً؛ لقلة البشر فيها؛ إذ لا أعتقد بأنَّ نفوس هذه البلاد من الجنوب إلى الشمال يتجاوز المليونين على أكثر تقدير)) . صيد الأسماك وطبخها ذلك الزمان ويصف (بورتر) عملية صيد الأسماك بالقول ((رأيت رجلاً في منتصف العمر وبيده آلة تشبه الشوكة الكبيرة ويغرزها بسرعة مدهشة ويخرجها وسمكة حية تلبط معلَّقة فيها وتُسمَّى هذه الآلة بالفالة، إنَّها طريقة ذكيَّة لصيد الأسماك )). يتضح من وصف بورتر عملية صيد الأسماك،أنَّ المنطقة كانتْ تمتاز بوجود كمِّيات كبيرة من الثروة السمكية التي يقول عنها: ((الأسماك تملء هذا السطح المائي الهادئ البرَّاق الجليل وكذلك مختلف الطيور الجميلة الغريبة نهارا عندما لا أكون منشغلا مع الفريق الهندسي أبقى أراقب تلك المخلوقات التي تطفو على الماء وتلتقط عيشها سمكة كانتْ أم عشباً بحريَّاً أو دودة صغيرة وتجدها لاهية عن كل ما يحيط بها، وبما أنَّ القوَّات التركية قليلة العدَّة والعدد فإنَّ الحرب لم تستطع إخافة الطيور بعد والمدافع نسبيا بعيدة عن المنطقة التي نحن فيها )) كما إنَّ (بورتر) يصف السمك وطبخه بالقول: ((السمك طعمه لذيذ جداً وطريقة طبخه غريبة حقَّاً؛ إذ أنَّهم أولا يقطعون السمك من الظهر أي: بالقرب من الهيكل العظمي, ثُمَّ تُفتح السمكة، وتبدو وكأنَّها قطعة واحدة, ويبقون على الجلد والرأس, ثُمَّ تُغرز بعض العيدان الرقيقة نسبياً في الأرض بشكل قوس وتُشعل النار بالقرب من تلك العيدان ولا أدري كيف لا تُحرق تلك العيدان، تُعلَّق السمكة على تلك العيدان وتحتها نار هادئة، وبعد فترة ليستْ بالقليلة توضع السمكة مباشرة على النار، اللحم اللذيذ إلى الأعلى والجلد على العيدان المتجمِّرة، رائحة الشواء تُزكم الأنوف وتفتح الشهيَّة وتمتدُّ الأصابع لتنهش اللحم المشوي، وبمهارة يُفصل اللحم عن الأشواك العظيمة، كنتُ أحاول جاهدا تقليدهم فلم أفلح بابتلاع ولو لقمة واحدة ،وقام دليلنا –الملَّاح إبراهيم –بفصل اللحم عن العظم ووضعه على رغيف خبز وقدَّمه لنا - نحن الضباط - وكانتْ وجبةً لذيذةً حقَّاً إلَّا أنَّ أكثر الضبَّاط الهندوس امتنعوا عن الأكل واكتفوا بالفجل والبصل الأخضر والخبز )). زراعة الرز وفضلا عما تقدم فإنَّ (بورتر) يُشير إلى اشتهار مدينة (القرنة) بإنتاج الرز أو ما يُطلق عليه محليِّاً بزراعة (الشلب) أو (العنبر)إذ يقول في هذا المجال: ((الرز المحلي لا نظير لطعمه ورائحته العبقة، ويزرع قرب الأهوار بين الناصرية والعمارة وكل يوم تعمر مائدتنا بهذا الرز الرائع )). ومن الأوصاف السابقة لمدينة القرنة ومنتجاتها يتَّضح جليَّاً: أنَّ المنطقة كانتْ تتميَّز بمواصفات طبيعية قد لا تتوافر في مدن أخرى، فكانتْ الثروات الطبيعية لاسيَّما الأسماك متوفرة بكثرة بل إنَّها تُمثِّل مصدر معيشة سكَّانها و مصدر ثرائهم أيضا, ولكثرتها دفع أهالي المنطقة إلى تصديرها وبيعها إلى المناطق الأخرى التي لا تتواجد فيها، كما إنَّ (بورتر) يُعطينا وصفاً دقيقاً لطريقة طبخ السمك تلك الطريقة التي ماتزال مستخدمة حتى وقتنا الحاضر وهذا يدلُّ على عبق الماضي الذي ما زال حتى يومنا هذا. الملابس ذلك الزمان كما يصف لنا( سير بورتر) الملابس ذلك الزمان في المدينة فيقول: (( يطغى اللون الأسود على ملابس النساء وبالكاد أرى ألواناً برَّاقةً مثلما اعتادتْ عليه عيناي في الهند، والناس هنا من الجنسين يلبسون الملابس الطويلة التي تصل إلى الكاحل وفوق منها مايشبه المعطف يسمُّونها العباءة, ويرتديها الرجال والنساء، إلَّا أنَّ الرجال يضعونها على أكتافهم ويُغطُّون رؤوسهم بالعقال والغترة، أو يلفُّونها بالعمامة. ولكلِّ مذهب طراز ولون مُعيَّن من غطاء الرأس، تكشف طريقة تغطية الرأس عن المنزلة الاجتماعية بتحديد نوعية العقال، فكل إنسان هنا يُفصح ويصرخ عالياً معلناً عن هويته وانتمائه الطائفي والاجتماعي، أمَّا النساء فيغطِّين رؤوسهنَّ بالعباءة، ورأس المرأة ملفوف بطرحة من القماش الأسود, تتدلى منها الشراشيب التي لا تستغني عنها وجوههنَّ المملوءة بالوشم وكذلك أكَفَّهنَّ )). ويتَّضح من وصف (بورتر) الجانب الاجتماعي, وما كانتْ تتميَّز به المرأة العربية المسلمة من عفَّة وحياء والتزام وعفوية، وهذا يُمثِّل درساً لما يمرُّ به المجتمع اليوم من غزو ثقافي وفكري لاسيما في الأزياء والملابس والتقليد الاعمى – عند البعض- للغرب دون وضع حدود معينة . اعتمدت المقالة على المصدر: آمل بورتر، العراق بين الحربين العالميتين من خلال رسائل سيرل بورتر، بغداد ،دار ميزوبوتاميا،2008،الصفحات 24-26-27-28-37-43-44. د. عماد جاسم الموسوي

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7800816579
00964-7800816579
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathofbasrah@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...