تاريخ الحلة

الحلّة مقر لإمارة الحجّ العراقيّ

     الحلّة مقر لإمارة الحجّ العراقيّ

كان السفر إلى الديار المقدّسة لحجِّ بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وأئمّة البقيع(عليهم السلام)، قديمًا عملاً شاقًا ومحفوفًا بالمخاطر، ناهيك عن الجوع والعطش إذ كان الحجّاج يقطعون المسافات الصحراويّة على الجمال، وهم يحملون متاعهم البسيط من الخبز اليابس، والتمر، والماء، ويواجهون كذلك في سفرهم مصاعب الكوارث الطبيعيّة من عواصف وبرد وأمطار وسيول، وذكر ابن الجوزيّ في كتابه(مرآة الزمان) في حوادث سنة(692هـ)، تَعرُّضْ قافلة الحجّاج الشاميّة إلى رياحٍ عظيمةٍ وبردٍ ومطر، وهلك الناس، وحملت الرياح أمتعتهم وثيابهم، وانشغل كلّ حاجّ بنفسه، وحصلت لهم مشقّة عظيمة، وكثيرًا ما كانت السيول تداهم قوافل الحجّ أثناء مسيرهم إلى مكّة، وكان مسير القافلة يكون أثناء برودة الجو، وعندما تشتدّ حرارة الشمس في الظهيرة يتوقّف الركب للراحة تحت ظل الأشجار، ثمّ يتواصل المسير إلى وقت اللّيل فيتوقّف الركب ويعقلُ كلّ حاجٍّ راحلته حتى لا تهيم أثناء اللّيل ويبقى بلا راحلة، بل إنّ بعضهم كان يعقلُها ويتوسّد يدها لينام اللّيل وخصوصًا عند شدّة البرد فينعم بالدفء، كما كان الحجّاج يتعرّضون لعمليّاتِ السلبِ والنهبِ التي كانت سائدة في زمن لم يعرف الحاجّ فيه الأمن والأمان على ماله وعرضه، وكانت قافلة الحجّاج تسير إلى المشاعر المقدّسة بحرًا، أو برًا سيرًا على الأقدام، أو على الجمال من كافة أصقاع الأرض يقودها أمير وهو القائد العام للقافلة كلّها، وكانت مهمّته اختيار زمن الحركة، وسلوك الطرق الواضحة المعالم، وترتيب الموكب في المسير والنزول والحراسة، وكلّها تحكي ذلك العناء، ومشقّة الحجّ في تلك الأزمنة التي كانت تفتقر لأبسط مقوّمات الأمان في السفر والتنقل والراحة في الإقامة والخدمات، وقد أقيمت على طرق الحجّ منشآت بدائيّة بسيطة مثل الاستراحات والمنازل والمرافق الأساسيّة من برك وآبار وعيون وسدود وخانات(فنادق) ومساجد وأسواق, وأقيمت على هذه الطرق الأعلام لإرشاد الحجاج إلى الطريق الواجب اتباعه، ورغم كلّ ما كان يتعرّض له الحجّاج من مصاعب إلاّ أنّ هذه القوافل كانت تصل إلى الأراضي المقدّسة، وكلّ منها تحمل قصّة تحكي مشقّة، وعناء السفر، وبالرغم ممّا كان يتعرّضُ له الحجّاج من مصاعب إلاّ أنّهم لم يكترثوا لتلك المخاطر، وقد دأبوا على السفر إلى الحجّ ولم ينقطعوا عنه، فكيف ينقطعون وقد أمرهم الله تعالى بقوله:(وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران 97، وقال عزّ من قائل{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج27. وذكر الباحث عبد الجبار الراويّ، في كتابه الموسوم (البادية) " أنّ طُرق الحجّ متنوّعة وكثيرة، تتشعب بتشعّب الأقطار المتاخمة لجزيرة العرب، فطريق الحجّ من العراق إلى مكة المكرّمة قديمًا موصوفًا في كلّ كتب المسالك والممالك وذلك الطريق لم يكن للعراقيّين وحدهم، بل كان للفرس، وبلاد ما وراء النهر(الهند والسند)، والأزبك، والطاجيك، والأفغان، وكان ركب الحجّ العراقيّ يتحرّك من المدينة التي يقيم فيها أمير الحجّ(القائد)، في الكوفة، وواسط، وبغداد، والموصل، والنجف، والحلّة، وكانت له مراسيم وآداب، وأوقاف، وصدقات، وحرس، وحماية، وإمارة، وعلم للإمارة. وذكر علي كامل سرحان في كتابه(إمارة الحجّ العراقيّ في العهد العثمانيّ 1704 ـ 1747 دراسة تاريخيّة): " كان لأمير الحجّ إيرادات من موارد دخل مختلفة منها إيرادات أمير الحجّ من خزينة الباشا في بغداد، وإيراده من الخزينة الإرساليّة للسلطان العثمانيّ، وإيراده من ضريبة الحماية على بعض المواد التجاريّة، وإيراده على كلّ ما يتركه الحجّاج الذين يتوفون في طريق الذهاب إلى الحجّ أو الإيّاب منه، فضلًا عن الهدايا المختلفة التي يحصل عليها أمير الحجّ من كلّ حاجّ أو تاجر، علاوة على ذلك كان أمير الحجّ آنذاك يمتلك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعيّة والعقارات والأموال ". وبما أنّ مدينة الحلّة تتمتّع بموقع جغرافيّ مميّز كونها تقع في وسط العراق، وضيق نهر الفرات فيها، ممّا جعلها قاعدة لتجمّع قافلة موكب الحجّ العراقيّ وانطلاقها إلى الديار المقدّسة، سيِّما بعد أن أقام الخليفة العباسيّ الناصر لدين الله سنة٥٨٠هـ/١١٨٤م، بمدِّ جسرٍ قويٍّ على نهر الفرات بالحلّةِ معقود على مراكب كبار متّصلة اهتمامًا بالحاجّ واعتناءً بسبله، وكانوا قبل ذلك يعبرون بالمراكب كما صيّر الخليفة لأمير الحلّة، إمارة موكب الحجّ العراقيّ، فتولى بذلك الإمارتين(الحلّة، والحجّ). وذكر المؤرّخ محمد بن شاكر بن أحمد الكتبيّ، في كتابه الموسوم(فوات الوفيات) أنّ أوّل من جمع بين إمارتي الحلّة والحجّ، الأمير طاشتكين الذي ولّاه الخليفة العباسيّ المستضيء (٥٦٦-575هـ/1170-1179) سنة (575/1178م)، وفي سنة(٦١٠هـ/ ١٢١٢م)، أسندت إمارة الحجّ إلى حسام الدين أبي فراس بن جعفر الحلّي الجاوانيّ. وفي سنة(٨٥٧هـ/١٤٥٣م) تولّى الوزير علي كيوان إمارة الحجّ، وهكذا نجد أنّ العديد من أبناء الحلّة وأمرائها تولّوا إمارة موكب الحجّ العراقيّ، وهذا يدلّ على المكانة المهمّة التي كانت تتمتع بها الحلّة بين المدن العراقيّة الأخرى. وفي عهد الاحتلال العثمانيّ للعراق الذي استمر أكثر من أربعة قرون، حرص فيها السلاطين العثمانيّون على إدارة شؤون قوافل الحجّ بأنفسهم، ومنها قافلة الحجّ العراقيّة وأولوها اهتمامًا خاصًّا بدوافع سياسيّة ودينيّة، فما كان يتعلّق بالجانب السياسيّ حرصت الدولة العثمانيّة على إعداد قوافل الحجّاج وعدّته مظهرًا من مظاهر قوّتها السياسيّة، وتأكيدًا لزعامة السلطان العثمانيّ على العالم الإسلاميّ، أمّا من الناحية الدينيّة فإنّ الدولة العثمانيّة كانت تنظر إلى الحجّ على أنّه ركن أساسيّ من أركان الدين الإسلاميّ، وأنّ لها ولاية الأمر في ذلك بادعائها أنّها حامية الإسلام والمدافع الحقيقيّ عنه، لذا فإنّ من واجبها الشرعيّ تنظيم الحجّ إلى الحجاز والإشراف عليه، وبسبب بروز قوة القبائل العشائريّة في تلك الحقبة فقد أسندت لبعض زعماء العشائر أيضًا مهمّة أمير الحاجّ، وقد تولّى الشيخ الحاج محمد ياسين أحد شيوخ قبائل شمّر إمارة موكب الحجّ العراقيّ، يساعده أحد شيوخ البو ريشة، وقد استوطن الشيخ محمد الياسين مدينة الحلّة مع قبيلته، ولحسن قيامه بتلك المسؤوليّة فقد منحه السلطان العثمانيّ سليمان الثاني لقب(چلبي). وفي القرن الثامن عشر، وتحديدًا في سنة(١٧٠٤م)، تسلّم يوسف بك إمارة الحجّ، بعد إن كان قد حصل على منصب أمير الحلّة في عهد الوالي حسن باشا وقد استطاع الأمير يوسف بك توفير نظام سفر قافلة الحجّ العراقيّ وتأمين الحماية لها باعتماده على قوة عسكريّة ترافق القافلة، واجبها المحافظة على الحجّاج وتأمين الطريق لهم عند ذهابهم إلى الديار المقدّسة وعودتهم منها، وكان على رأس تلك القوة الأمير(سلطان بك بن يوسف بك)، كما كان كثيرًا ما تتعرض قافلة الحجّاج لهجمات القبائل والبدو القاطنة بالقرب من طريق الحجّاج، ولاسيما في المناطق الصحراويّة الممتّدة بين العراق والحجاز، ومن المهامّ الملقاة على أمير الحاج فضلاً عن توفير الحماية للحجّاج، والسهر على راحتهم، توفير كلّ ما يحتاجونه، لاسيما الماء، لأنّ الطريق الذي يسلكه الحجّاج صحراويّ لا تتوفر فيه المياه الكافية، ممّا يتطلب إعداد سقاءين لحمل الماء على الجمال وتخصيص الأجور لهم، فضلًا عن الاهتمام بالخانات التي يأوي إليها الحجّاج أثناء تجمّعهم في سنجق الحلّة لضعف الأمن آنذاك، وقد وقعت حادثة تعرّضت لها إحدى قوافل الحجّ العراقيّة ذكرتها إحدى المصادر التاريخيّة فلقد كان شاهد عيان لكونه ضمن القافلة المتوجّهة إلى مكة المكرمة سنة(١١٣١هـ/ ١٧١٨م)، بالقول:(لمّا أسفر وجه الصباح، ونوديَ بحيَّ على الفلاح، عزمنا على الرحيل، وسرنا خلف الدليل، فمشينا إلى الزوال، وإذا بعرب عتيبة ترصدنا على رؤوس الجبال قاصدين محاربتنا، وعزموا على الطعن والضرب، وكان أمير الحاجّ يومذاك حاكم مدينة الحلّة يوسف باشا (بلّغه الله من الدنيا والآخرة ما شاء) شجاعًا مقدامًا هزبرًا ضرغامًا، وسيفًا صمصامًا، وبحرًا قمقامًا، فحين شاهد الأعراب رمتنا بالرصاص حتى قلنا إنّه ليس لنا من أيديهم خلاص، فأمر هذا القائد البطل، الحُجّاج حينها بالوقوف، وعدّ الجيوش، وصفّ الصّفوف، ثمّ إنّ الباشا أشار على من معه من الرجال الصناديد الأبطال بصعود تلك الجبال، وفتح باب القتال، فوقع الكرّ والفرّ، والقتل، والأسر، من الظهر إلى العصر، وإنّ البطل المشهور سلطان بك نجل يوسف باشا أشار على أبيه بأن يرمي الأعراب بالمدافع، الذي ليس لهم به من دافع فصعدت الأقبال، بالمدافع على رؤوس الجبال ومعهم بقيّة العسكر والرجال فأبعدوا عتيبة وأدنوا منهم الآجال وفرّقوهم في تلك البراري والقفار، وبعثروهم بين السهول، وكان لنا يوم، يا له من يوم لم نرَ فيه غير نقع ثائر، وأسد إلى الكفاح غائر، وجبان خائف من برق السيوف، ومن رعد المدافع والبنادق حائر، ورصاص كالبرد على الفريقين مصبوب، وفرس بركابه طامح وجمل بجمله طائح، وذهب جميع الأعراب شذر مذر، وغنم العسكر شيئًا كثيرًا من الخيل والإبل والغنم، وليس لهم بقر، وأسروا أربعة من مشايخ عتيبة وأذاقوهم كأس المذلّة والخيبة، وحصل الفتح بعون المجيب، كيف لا، ومعنا {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} الصف 13، وخرجنا من ذلك المضيق وتلك الجبال بالسلامة، وبلّغ الله الباشا مطلبه ومرامه، واجتمع الشمل بعد الشتات وسرنا وحثثنا الخطى). وبالنظر لأهميّة ما ورد في هذا الوصف الدقيق للمعركة فقد تمّ تضمينه كاملاً لما عكسه من حقائق ترتبط بواقع القافلة ومقدار القوة المرافقة لها. وعلى العموم استأثرت أنباء الحجّ بجانب كبير من اهتمام الأهالي في الحلّة وأصبح بذلك لهذه المدينة سمة من القدسيّة والشرف، حتى إنّها دعيت(حلّة شريف) وقد وقع على عاتق المدينة مسؤوليّة استقبال الأعداد الكبيرة من الحجّاج وإيوائهم وتموينهم من مختلف الجنسيّات والذين كانوا يتجمّعون فيها في وقت محدّد من كلِّ سنة استعدادًا للرحيل إلى الحرمين الشريفين وقد أفادت الحلّة من تلك المسؤوليّة فائدة كبيرة من الناحية الاقتصاديّة، إذ كانت مواسم الحجّ تستغلُّ للتجارة أيضًا، وقد اعتاد أكثر الحجّاج الغرباء أن يحملوا معهم كثيرًا من منتجات بلادهم لبيعها في الحلّة ليستعينوا بثمنها على أداء نفقات الحجّ، وكثير منهم كانوا يبادلون منتجات بلادهم بمنتجات حلّيّة، فكانوا بذلك يجمعون بين المتاجرة وأداء الفريضة، وهكذا كانت خانات الحلّة وأسواقها تمتلئ وتعجّ بخليط متنوّع من الناس والبضائع والحيوانات كالإبل والخيل ودواب الحمل، فراجت فيها الحركة التجاريّة.

صور من الموضوع ...

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7602320073
00964-7601179478
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathhi@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...