أعلام

الشَّيْخُ الأعْظَم مُرْتَضى الأنْصَاريّ .. مُرَبِّي العُلمَاء

الشَّيْخُ الأعْظَم مُرْتَضى الأنْصَاريّ .. مُرَبِّي العُلمَاء

أُطلق لفظ "الشيخ" في الوسط الشيعي على شخصيتين بارزتين أولاهما الشيخ الطوسي، والشخصية الثانية الشيخ الأنصاري الذي لُقِّب بالشيخ الأعظم مربي العلماء، وينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. وُلد الشيخ الأنصاري سنة 1214هـ بمدينة ديزفول بإيران، وتلّقى تعليمه الأوَّلي على يدي عمه الشيخ حسين أحد وجوه علماء تلك المدينة، ولمّا بلغ العشرين من عمره سافر مع والده إلى زيارة المشاهد المقدسة في العراق، وعندما وصل كربلاء كان على رأس علمائها في ذلك الوقت السيِّد محمَّد المجاهد، وشريف العلماء المازندراني، وما إن حضر الشيخ الأنصاري بصحبة والده عند السيِّد محمَّد المجاهد، حتى نال إعجابه منذ اللقاء الأوّل، وطلب من والده السماح له بالبقاء في كربلاء للدراسة وتحصيل العلم ، فاهتم به السيِّد المجاهد وأحاطه بعنايته الخاصة ورعايته المستمرة، وظل الشيخ الأنصاري يتنقل بينه وبين الشيخ شريف العلماء المازندراني يفيد منهما وينهل من علمهما، واستمر على ذلك مدة أربع سنوات إلى أن حوصرت كربلاء بجنود داود باشا، واستمرّ الحصار من سنة 1241هـ/1825م حتى عام 1244هـ /1828م ، مما نتج عنه مجاعة كبيرة في كربلاء فاضطر أهالي المدينة إلى مغادرتها، وكان من بين الذين غادروها الشيخ الأنصاري وجماعة من الطلبة والعلماء وتوجهوا نحو الكاظمية، ثم عاد الشيخ الأنصاري بعد وصوله الكاظمية إلى موطنه ديزفول، وبقي فيها يدرس لمدّة سنتين عاش خلالهما حريصاً على إشباع نهمه من العلم، فقد كان لديه العزم على الطواف في البلاد للقاء العلماء والأئمة لعل أحدهم يحقق غايته، ولذلك عاد إلى كربلاء ليحضر مرة أخرى عند أستاذه شريف العلماء المازندراني مدة عام، ثم رحل بعد ذلك إلى النجف الأشرف . اعترضت والدته في بادئ الأمر على سفره إلى النجف، ولأن سفره كان لغاية سامية وهي تحصيل العلم والتَّبحُر فيه طلب منها الاستخارة والتفاؤل بالقرآن ، ولمّا فتحت القرآن وقع بصرها على الآية الكريمة:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ «القصص : 7».وكأنَّ الآية قد جرت على مسامعها للمرة الأولى فتفاءلت بها خيرًا، وسمحت له بالسفر، فرحل الشيخ إلى النجف الأشرف طيب النفس قرير العين برضا أمه . كان في النجف الأشرف آنذاك الشيخ موسى كاشف الغطاء فواظب الأنصاري على حضور درسه مدة عامين ، ثم استأذن شيخه في السفر من النجف الأشرف عازمًا على زيارة مشهد خراسان مارًّا في طريقه على كاشان حيث فاز بلقاء أستاذه "النراقي" صاحب المناهج مما دعاه إلى الإقامة فيها نحو ثلاث سنوات اهتم خلالها بالدرس والتأليف حتى نال منزلةً ومكانةً لدى شيخه النراقي فأصبح مقرباً لديه لا يملُّ مراجعته ومباحثته ، وحُكي عن الشيخ النراقي أنه قال "لقيت خمسين مجتهداً لم يكن أحدهم مثل الشيخ مرتضى"، ثمَّ خرج الأنصاري إلى خراسان وأقام فيها شهورًا عديدة عاد بعدها إلى بلاده مارّاً بأصفهان أيام رياسة صاحبي المطالع والإشارات وقد ألحَّ عليه صاحب المطالع بالإقامة فاعتذر، وواصل المسير إلى وطنه ديزفول، وبعد استقراره فيها خمس سنوات رحل مرة أخرى إلى العراق، وعندما وصل إلى النجف سنة 1249هـ في عهد الشيخ علي بن جعفر وصاحب الجواهر استقل بالتدريس والتأليف ، وبعد وفاة صاحب الجواهر تولى الشيخ الأنصاري الزعامة الدينية للطائفة وأصبح المدرس الأوحد في الحوزة العلمية ، وكان يلقي دروسه في الفقه والأصول صباح كلّ يوم في الجامع الهندي الذي كان صحنه يمتلئ بما يزيد على الأربعمائة شخصاً من العلماء والدارسين، وتخرج على يديه المئات من العلماء والطلاب من بينهم الميرزا محمد حسن الشيرازي، والميرزا محمد حسن الآشتياني، وأبو القاسم كلانتر و كثير غيرهم. وفي عام 1266هـ تسلم الشيخ الأنصاري زعامة الشيعة و مرجعيتها بناءً على توصية من شيخه صاحب الجواهر الذي أمر بحضور العلماء عنده وهو يعاني المرض في آخر أيامه، فحضر جميع العلماء ما عدا الشيخ الأنصاري، ولمّا بحثوا عنه وجدوه في حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يدعو لشيخه بالشفاء، وعند انتهائه من الدعاء توجه إلى حضور اجتماع العلماء الذي دعا له صاحب الجواهر، فأجلسه إلى جواره وأخذ بيده ووضعها على قلبه وقال: "الآن طاب لي الموت"، ثمّ قال للحاضرين: "هذا هو المرجع من بعدي"، ثمّ التفت إلى الأنصاري وقال له: "قلّل من احتياطاتك فإنّ الشريعة سمحة سهلة"، وهذا القول من صاحب الجواهر ليس إلّا لتعريف الجمع بشخصية الشيخ الأنصاري وقيمته العلمية كمرجع، لأن المرجعية غير قابلة للوصية، وهكذا تسلم الشيخ الأنصاري المرجعية وظل فيها حتى عام 1281هـ . تميَّز الشيخ مرتضى الأنصاري بصباحة الوجه برغم ما كان فيه مِن أثر الجدري، يخضب لحيته بالحناء ضعيف البصر، وكان من الحفّاظ النجباء، جمع بين قوة الذاكرة وقوة الفكر والذهن وجودة الرأي، حاضر الجواب لا يعييه حلُّ مشكلة ولا جواب مسالة، وكان ورعاً تقيَّاً، عاش على الكفاف عيشة الفقراء المعدمين ساعياً إلى إنفاق كلِّ ما يجلَب إليه على الفقراء والمحتاجين في السر مبتغياً مرضاة الله غير مريد للظهور والمباهاة بجميع ذلك حيث لم يُبقِ لورثته شيئًا يُذكر حتى أنه يوم وفاته لم يكن عنده مصرف لعزائه ولا ما يقوم بكفالة بنتيه اللتين خلفهما بعده، ولم يرقَ أحد إليه في تقواه وكثرة الصَلاة والصِّلات، ولا في العلم أصولاً وفروعاً وحسن الأخلاق . وكان الشيخ الأنصاري متعبداً كثير الفضائل والكرامات، كما كان مقتصداً في مأكله ومشربه وملبسه باسط اليد على الفقراء والمحتاجين، أرسل كثيراً من خالص ماله إلى خراسان في فكاك من يأسره التركمان في طريق خراسان من الزائرين ، لم يأنس بكل هذا العطاء إلا سرًّا ولم يَرَ لنفسه فضلاً ولا فخرًا في إيصال الحقوق إلى أهلها ، فقد قال له أحد أصحابه: "إنك مبالغ في إيصال الحقوق إلى أهلها" فأجابه: "ليس لي بذلك فخر ولا كرامة ، إذ من شأن كلِّ عامي وسوقة أن يؤدِّي الأمانات إلى أهلها ، وهذه حقوق الفقراء أمانة عندي" . أما عن تراثه العلمي فقد ترك للإسلام والمسلمين ثروة كبيرة من مؤلفاته في مجالات دينية مختلفة، منها "الرسائل" في الأصول، و"المكاسب" في الفقه، فأمَّا كتاب الرسائل فسُمِّيَ بذلك لاحتوائه على خمس رسائل في الأصول يعوِّل عليها الأصوليون من الإمامية في كل مكان، وهي: حجية الظن، وأصل البراءة، والاستصحاب، ورسالة التعادل والتراجيح، ورسالة الإجماع، وقد طبعت مرارًا في كتاب يحمل اسم "الفرائد"، ويُعدُّ هذا الكتاب أساسًا في علم الأصول الحديثة عند الشيعة، استدرك الشيخ فيه على من تقدمه في جملة من مسائل الأصول المهمة، وتبعه فيها من تأخر عنه وحقق مسائله، وصارت نظرياته قدوة لمن بعده، كما جُمعت كتب عديدة من بحوثه في الأصول انتفع بها العلماء قديمًا وحديثًا . بالإضافة إلى ذلك ألَّف كتبًا في الطهارة والصوم والزكاة والخُمس على وجه البسط ، وكتاب الصلاة وكتاب أصول الفقه، إلى جانب رسائل متعددة في الرضاع والتقية والعدالة والقضاء عن الميت ، وفي المواسعة والمضايقة ، كما أرسى قاعدة "من ملك شيئاً ملك الإقرار به"، ونفي الضرر والضرار ، وغير ذلك من المؤلفات . أصبحت مصنفاته مدار حركة التدريس في حياته وبعد مماته، ويعد الشيخ مرتضى الأنصاري الرائد الأول للتجديد العلمي في مجالي الفقه والأصول في العصر الأخير، وإليه يعود الفضل في قيام النهضة العلمية الأخيرة في النجف الأشرف، حيث حوَت كتبه في الأصول والفقه من الدقائق العجيبة والتحقيقات الغريبة ما جعل فَهْم مراده دليلاً على النبوغ ، الأمر الذي يدل على عِظَم أفكاره الصائبة في تهذيب القواعد العلمية وتحرير المسائل الفقهية والأصولية ، وتفريغها في قوالب متينة رصينة قد لا تشبه أوضاعها السابقة . وبعد حياة ملؤها العلم والتقوى والورع توفي الشيخ مرتضى الأنصاري في داره في محلة الحويش بالنجف الأشرف في منتصف ليلة السبت لثمانية عشرة خلون من جمادى الثانية سنة 1281هـ ، وغُسِّل على ساحل بحر النجف غربي البلد، ونُصبت له خيمة هناك هي أول خيمة نصبت في هذا الشأن ، وتوافد الناس من جميع طبقاتهم من كل مكان لتشييع جثمانه الطاهر حتى اتصل السواد من سور النجف إلى ساحل البحر ، ولم يكن له قرابة وجيه في البلد سوى تقاه وعلمه الجم الذي أضاء النجف الأشرف، وكان عقبه بنتين لا ولد له ، ودُفن يوم السبت في دكة الحجرة التي دُفن بها الشيخ حسين نجف والشيخ محسن خنفر العفكاوي عن يسار الداخل إلى صحن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الباب القبلي المعروف بباب السوق الصغير .

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7711173108
00964-7602365037
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
info@mk.iq
media@mk.iq

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...