أعلام
آية اللـه العظمى السيد محمد المجاهد

عرفت حوزة كربلاء المقدسة بعمقها التاريخي وتراثها الثّر في نتاجاتها الفكرية والعلمية وتأثيرها المباشر والصـريح في مجمل الحياة الكربلائية بل والإسلامية عموماً، فلم يكن مراجعُها وعلماؤها بمعزل عن حياة المسلمين أينما كانوا، ينشـرون علوم الدين ويتفاعلون مع هموم المسلمين، لذا قصدها طلاّب العلم من مختلف بقاع الأرض، الأمر الذي جعلها قطباً تتوجه اليه الأنظار وتُلوى نحوه الرقاب، فأنجبت وخرّجت العديد من أعلام الدين والمذهب الذين كان لهم كبير الأثر في ما وصل إلينا من علوم ومواقف أضحت شاهداً على القوة التي كانت تتصف بها آية الله العظمى السيد محمد المجاهد أحد أعلام هذه الحوزة المباركة ، وهو السيد محمد بن السيد علي بن أبي المعالي الحسني الطباطبائي الحائري الكربلائي، يعود نسبه للإمام الحسن عليه السلام من طرف أمِّه وأبيه فهو نجيب الطرفين نسبًا وعلمًا، فأبوه المحقق المؤسس الذي ملأ الدنيا ذكره وعمّ العالم فضله، تخرج عليه علماء أعلام و فقهاء عظام صاروا من أكابر المراجع في الإسلام، ومن أشهر مؤلفاته كتاب رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل، وهو كتاب استدلالي جمع فيه جميع أبوابَ الفقه بصورة موسعة طبع على نحو ثمانية عشر مجلّدًا ، وأمّا أمّه فهي آمنة بنت محمد باقر بن محمد أكمل العالم الكبير المعروف بالوحيد البهبهاني وكانت من أفقه نساء عصرها متكلِّمة - عالمة بعلم الكلام - واعظة أصولية محققة محدثة جليلة تزوجت من ابن عمها السيد علي الطباطبائي وأنجبت له ولدين هما السيد محمد الذي نذكر ترجمته هنا والسيد مهدي. ولد السيد محمد المجاهد في مدينة كربلاء في حدود سنة 1180هـ ، أي سنة 1766م. وقد كان لوالديه أثر كبير في نشأته العلمية ، فأُمُّه كانت المعلمة الأُولى التي تولت تربيته وتعليمه و مهَّدت له سُبُل المجد وأوردته سلالم العلم والمعرفة فما إن كبر حتى حضـر دروس العلامة بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، و حضـر أبحاث والده في الفقه، فنال جُلّ المواضيع الهامة فيهما فبرزت حينئذ مقدرته العلمية حتى أصبح من الرعيل الأول في الفقه والأصول، وتخرَّج على يديه الفضلاء والعلماء والمراجع أمثال شريف العلماء، وملا صالح المازندراني، و الشيخ مرتضى الأنصاري وغيرهم ممن سما الدهرُ بهم، ورغم سمو مرتبته العلمية فقد كان متواضعًا لا يفخر بشيء، وقد مدحه العلماء وشهدوا بمكانته العلمية ، حيث قال عنه الشهيد الثاني زين الدين الجُّبعي العاملي: كان مفتيًا وحاكمًا وقاضيًا ورئيسًا في الدين والدنيا ومرجعًا للعرب والعجم انتهت الرئاسة الإمامية في عصره، ووصفه القاضي سعيد القمّي بقوله: السيد الأجل الأعظم الأكرم الأفخم، البحر الزاخر والسحاب الماطر الفائق على الأوائل و الأواخر صاحب التحقيقات الرشيقة والتأليفات الأنيقة كالمفاتيح والمناهل وغيرهما نوّر الله روضته وأعلى في الفردوس منزلته، ووصفه الحر العاملي بقوله: علاّمة العلماء الأعلام و سيد الفقهاء العظام و أعلم أهل العلم بالأصول والكلام. وللسيد المجاهد بالإضافة إلى مراتبه العلمية ملكات فاضلة منها أنَّه كان ثاقب البصيرة يقيّم كلّ شخص يراه مِن أوّل نظرة، ومن شواهد ذلك أنَّه التقى ذات يوم بالشيخ محمد أمين الذي قدم من إيران لزيارة كربلاء بصحبة ابنه الشاب الذي يبلغ من العمر عشـرين سنة، فلما نظر السيد المجاهد إلى ذلك الشاب قال: مَن هذا الشاب؟ فأجابه والده الشيخ: هو ابني، فقال له السيد المجاهد: امضِ لشأنك بعدما تقضى وطرًا من زيارتك ودعه هنا يشتغل بطلب العلم فإنّ له مستقبلاً باهرًا، وكان كما تنبَّأ ، فبعد سنوات من هذا اللقاء أصبح ذلك الشاب من نوابغ المراجع العظام الذين خلَّدهم التاريخ ، وهو الشيخ مرتضـى الأنصاري الذي لازالت كتبه تُدرَّس في الحوزات العلمية. هاجر السيد المجاهد إلى إيران وقد ذكر المؤرِّخون سببين لهذه الهجرة الأوَّل أنَّه لمَّـا ارتقى مقامًا علميًّا ساميًا في الأصول والفقه عدّه والدُه أعلم منه ولم يقدم أبوه على الإفتاء بعد ذلك، لذا هاجر السيد محمد المجاهد من كربلاء إلى اصفهان احترامًا وتأدبًا وحفاظًا على سمعة أبيه العلمية المرموقة، وبعد وفاة والده عام 1231هـ- 1816م عاد السيد محمد المجاهد إلى مدينة كربلاء المقدسة. وقال آخرون إنّ سبب هجرته استيلاء جماعة من الوهابيين على الحائر الحسيني وقتلهم لأهالي مدينة كربلاء، فوجد السيد المجاهد نفسه مضطّرًا لمغادرة المدينة إذ لم تتوفر له السبل الكفيلة لردّ هذا الاعتداء الظالم، فتوجّه إلى إيران ليحثّ الدولة القاجارية على حماية العتبات المقدسة في العراق، وأمَّا والده فأرسل عياله وأطفاله الى خارج المدينة في مكان بعيد مأمون عن أذاهم وكيدهم. بقي السيد محمد المجاهد في مدينة كرمانشاه مدة تمَّت خلالها مراسلات ومداولات بين حكومة إيران وبين الدولة العثمانية بشأن مسألة حماية العتبات المقدسة في العراق من الهجمات الوهابية ، ثم رحل السيد محمد المجاهد إلى أصفهان وبقي فيها ثلاث عشـرة سنة، منشغلاً بالتدريس ، فكان مرجعًا لعلمائها في علمي الأصول والفقه حتى توفي والده فرجع إلى كربلاء، وتولَّى المرجعية فيها فكان المرجع العام لكلّ الإمامية في العالم، و ازدهرت في زمنه الحوزة في كربلاء و توافد عليها طلَّاب العلم من دول مختلفة لينهلوا من غزير علمه. أورث السيد محمد المجاهد للأجيال من بعده مؤلفات ثمينة، ومصنفات قيمة منها: مفاتيح الأصول، الوسائل في الأصول، مناهل الأحكام، إصلاح العمل، عمدة المقال في تحقيق أحوال الرجال، رسالة حجية الظن، المصابيح في شرح المفاتيح للكاشاني، جامع العبائر، كتاب في الأغلاط المشهورة، المصباح الباهر في رد اليادري و إثبات نبوة نبينا الطاهر، رسالة في الاستصحاب، الجهادية، حاشية على المعالم ورسالة في حجية الشهرة. لم يكتفِ السيد محمد المجاهد بإصدار فتوى الجهاد ضدّ روسيا القيصرية بل حمل السلاح بنفسه وتوجه إلى ساحات القتال لذا لُقِّب بالمجاهد ، وذلك لـمَّـا رأى أنّ البلاد الإسلامية قد تعرضت إلى الخطر الصليبي باحتلال روسيا القيصرية قسمًا كبيرًا من إيران فتوجّه السيد المجاهد مع جماعة من العلماء والطلاب وأهل الصلاح إلى بلاد ايران، فلما دخلها عظّمه اهلها غاية التعظيم واستقبله الشاه فتح علي القاجاري، فشكّل الشاه جيشًا تحت قيادة ابنه وولي عهده عباس ميرزا ، وتوجّهوا لمحاربة الروس في منطقة تفليس. وبعد رجوعه من الجهاد ضد الروس توفي السيد المجاهد في مدينة قزوين سنة 1242 هـ- 1827م ، وكان قد أوصى بنقل جثمانه إلى مدينة كربلاء مسقط رأسه ، فنقل الى كربلاء وشيع تشيعاً مهيباً ودفن في مقبرتهم الخاصة الواقعة جنب مدرسة المجاهد التي كانت تقعُ في سوق التجار الكبير، وقد أُزيلت هذه المدرسة سنة 1980م نتيجة فتح شارع المشاة الذي يربط الحرمين الشريفين، ولا يزال قبره قائمًا في الجهة الشمالية لمنطقة ما بين الحرمين الشريفين، وهو عبارة عن غرفة مكسوة بالرخام الجميل وتعلوها قبة زرقاء صغيرة من الكاشي الكربلائي، وكان لموته أثر محزن في نفوس العلماء والطلبة وأهالي كربلاء غير أنَّ نتاجاته الفكرية وسيرته العطرة خلدته إلى هذا اليوم.